الخرطوم ودمشق… بانتظار المدد الخارجي
معاوية يس *
يُحيَّي المرء الشعب السوري على صموده بوجه آلة القتل الحكومية التي لا تعرف رحمةً. ولكن على السوريين أن يدركوا – قبل فوات الأوان – أن نجاح ثورتهم، ونجاحهم في إطاحة نظام بشار الأسد لن يتم بأيدي الدول المسماة «أصدقاء سورية»، ولا بتزويد الغربيين «الجيش السوري الحر» سلاحاً، ولا برفع موسكو وبكين «الشرشف» الذي يغطون به الأسد ونظامه. التغيير لن يحدثه سـوى السوريين أنفسهم، عُزَّلاً ومسلّحين، فهم وحدهم الشـعب وإرادته وعزيمته على طي ملف سلطة آل الأسد.
مما يؤسف له أن مصير السوريين معلّق منذ اندلاع انتفاضتهم العاتية قبل ما يداني عاماً بالتنازع على نظام دولي جديد بين الولايات المتحدة (يتبعها الغرب الأوروبي)، وروسيا (وتتبعها الصين). الروس، بقيادة رئيسهم الماكر المشاكس فلاديمير بوتين لا يريدون نظاماً دولياً جديداً تكتب الهيمنة فيه لأميركا وحدها، وهي هيمنة واجه بوتين بنفسه تهديداتها، حين دعم الأميركيون مرشحين بمواجهته في الانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة. ويعتقد بوتين وعدد كبير من الساسة الروس أنه قد آن الأوان، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وتشظي منظومة الدول التي كانت تحت مظلته، لأن يخرج المارد الروسي من قمقمه، ويستعيد نفوذه ومصالحه في أرجاء العالم من دون خوف من «الكاوبوي» الأميركي. لهذا السبب، ولأسباب أخرى، تمسّكت روسيا بموقفها الذي يهدد بأن تعكف موسكو على تسليح جيش بشار الأسد إذا قرر الغربيون وحلفاؤهم في المنطقة العربية تزويد قوات المعارضة السورية سلاحاً. وعلى ذلك ينـسحب التـفسير الروسـي المغـاير لمـنطـوق قـرارات مؤتمر جنيف، وغياب موسكو عن مؤتمر أصدقاء سورية في باريس.
في السودان وضع مختلف تماماً. السودان ليس من بين أولويات السياسة الغربية، خصوصاً في ظل عكوف الرئيس باراك أوباما على خوض انتخابات 2012 الرئاسية. ونظام عمر البشير يحظى بمهادنة غربية تخلو من التَّواد وتقديم المساعدات، بل إن أوروبا الغربية والولايات المتحدة ترفضان أن يلتقي أي من مبعوثيهما إلى السودان الرئيس البشير، باعتباره مطلوباً أمنياً لدى المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وليست تلك المهادنة الغربية سوى ضرب من ضروب ديبلوماسية طول البال، باعتبار أن حكومة «شذاذ الآفاق» في الخرطوم مستعدة لتسهيل اتفاقات على حكم ذاتي فضفاض لمنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق اللتين تشهدان حرباً أهلية مستعرة الأوار، بل مستعدة لفصل إقليم دارفور الغربي، على غرار استسلامها وقبولها فصل الشطر الجنوبي في مثل هذه الأيام من العام 2011.
صحيح أن روسيا والصين تلعبان في السودان دوراً شبه مماثل لدورهما في سورية، إذ دأبتا على دعم نظام البشير، خصوصاً الصين، في المحافل الأممية، وفي مقدمها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. بيد أن موسكو وبكين تعلمان جيداً أن التحالف الغربي لن يسمح لهما بالاستئثار بأفريقيا وخيراتها، خصوصاً النفط، وتعلمان جيداً أن بلدان القارة السمراء هي أصلاً صنيعة غربية، ومُستعمرات أنشأتها القوى الاستعمارية الغربية، والهيمنة – روسية كانت أم صينية – خط أحمر يمكن أن يعيد الحرب الباردة التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
ولذلك فإن دعم هذين البلدين لمحفل البشير لا يتعدى تنفيذ مشاريع الطرق والجسور، وبناء الفنادق، وإصلاح القاطرات والمصانع المعطوبة. ولا يتجاوزه إلى مرحلة إغاظة القوى الغربية الكبرى باتخاذ حق «الفيتو» ضد قرارات العقوبات والاستهداف الموجهة ضد مافيا الإسلاميين في السودان. وأسرّ لي مسؤول سوداني كبير قبل أيام بمدى إحباط جماعته من قِصَر نَفَس الدعمين الصيني والروسي للخرطوم في المحافل الدولية، على رغم تأكيدات موسكو وبكين للمسؤولين السودانيين أنهما لن تتخليا عن النظام السوداني.
إذا كانت النصيحة للشعب السوري، وهو شعب معلَّم وعريق ذو إرادة، أن يعتمد على نفسه، ويواصل حماية انتفاضة المدنيين بسلاح الجيش السوري الحر، من دون تعويل على مدد أجنبي، فإن النصيحة نفسها ينبغي أن توجّه إلى الشعب السوداني الأبيّ الذي هو في حاجة إلى حماية مسلحة من أحزابه العتيقة وحركات التمرد التي تقاتل في التخوم لإسقاط سلطة المركز.
ها هي تظاهرات السودانيين تتواصل في العاصمة ومدن الأقاليم منذ ما قبل جمعة «لحس الكوع»، مروراً بجمعة «شُذاذ الآفاق»، وانتهاء بإسقاط النظام تحقيقاً للإرادة الشعبية التي وجدت في قرارات التقشف الاقتصادي سبباً لتفجير غضبها، واكتشفت جماهير السودانيين أن النظام يريدها أن تدفع ثمن نزواته وحماقاته السياسية وحروبه العنصرية التي تتوزع في الغرب والجنوب والشرق، وتنتقل انعكاساتها إلى العاصمة المثلثة، ممثلة في الاضطهاد والتنكيل الذي تمارسهُ قوات الأمن على أساس عنصري وقبلي على السكان.
يبقى أن السودانيين، في ظل غياب السلاح الكافي لمساندة انتفاضتهم، في حاجة إلى جهاز إعلامي يمثل إرادتهم الحرة، ويقوم بتعرية أكاذيب محفل النظام، وفضح عمليات غسل الأدمغة التي تمارسها أقنيته الفضائية، وتهيئة الشعب للأخذ بوسائل الدفع نحو إجماع وطني، ورصَّ الصفوف، وتوحيد الكلمة، ورسم خريطة طريق واضحة لنهج الحكم بعد سقوط النظام، والتذكير بمطالبات القصاص ومحاكمة المفسدين وحشد طاقات المحامين والقضاة والديبلوماسيين لمحاولة استرداد الأموال المنهوبة المودعة في مصارف «الأوفشور» وبنوك ماليزيا وشنغهاي ودبي وإسطنبول.
الثورة على نظام البشير وأتباعه ليست مقصودة على سبيل التغيير وحدهُ، ولكن لأن النظام المذكور أفسد كل شيء في حياة السودانيين، خصوصاً المستقبل وأجيال المستقبل الذين هم الثروة الحقيقية لكل أمة. وآن للسودانيين في بلدان الشتات أن يكون لهم دور جاد وفاعل في دعم آليات التغيير، فهم أشد تأذياً من ذويهم في الداخل من سياسات حكومة البشير، إذ يتحملون وحدهم أعباء تسيير موازنات عائلاتهم وأقاربهم، وهي أعباء تفاقمت وزادت زيادة كبيرة بعدما انهار الجنيه السوداني خلال الأشهر الأخيرة. وفوق ذلك كله يحملهم النظام على رفد موازنة الدولة بالرسوم والإتاوات التي تُفرض عليهم مع كل وثيقة يطلبون الحصول عليها من سفارات النظام وقنصلياته في بلاد الاغتراب، بخلاف الجبايات التي تستحصل منهم في المطارات والموانئ والدواوين الحكومية عند عودتهم في عطلاتهم إلى السودان.
* صحافي سوداني من أسرة «الحياة»
الحياة