الخطابان السياسي والديني في العالم العربي يمضيان على نسق واحد
“صوت من المنفى.. تأملات في الإسلام”، كتاب صدر عن دار الكتب خان، وحمل توقيع كل من المفكر المصري الراحل نصر حامد أبوزيد والأكاديمية الأميركية إستر نيلسون، أستاذة اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة لايدن، وترجمته نهى هندي، وضم مقدمة توضيحية لنيلسون كشفت فيها أنها اقترحت على أبوزيد أن يضع كتابا عن نفسه، يرصد فيه الأحداث التي أدت إلى نفيه والمسار الحياتي الذي صاحبه في رحلته البحثية، وكيف توصل إلى هذه الرؤية في تفسير القرآن وهي الرؤية المختلفة عن الفهم الشائع.
العرب محمد الحمامصي [نُشر في 20/07/2016، العدد: 10340، ص(13)]
مفتاح لدخول عالم نصر حامد أبوزيد وفكره
قال المفكر والأكاديمي الراحل نصر حامد أبوزيد في هذا الكتاب الذي هو ثمرة تعاون مع الأكاديمية الأميركية إستر نيلسون “حين بدأت في كتابة كتاب ‘نقد الخطاب الديني’ أردت أن أذكر الاعتبارات الموروثة في هذا الخطاب، وطرحت جملة من الأسئلة من بينها، ما هي نقطة البداية، وما الذي يأخذه الناس على عواتقهم؟ واكتشفت أن الخطابين الديني والسياسي يتشابهان، فكلاهما ينطلق من فرضيات غير مختبرة، الفرضية الأولى للخطاب الديني هي أن السيادة الإلهية مطلقة، وتتبع ذلك ثنائية أن الله يملك الحكمة والمعرفة والبشر جاهلون، والله قوي والناس ضعفاء، لذا فكل ما يأمر به الله يؤخذ حرفيا”.
النص المقدس يتكلم بنفسه، فماذا تعرف أنت أيها الإنسان الجاهل والضعيف على أي حال؟، إضافة إلى ذلك ينظر إلى الناس على أنهم ماكينات من صنع المهندس الأكبر، أي الله، وبما أن الله خلق الناس فهو يعرف بواطنهم وما يبدونه، والنص المقدس هو “كتيْب الإرشادات” عن كيفية التعامل مع هذه الماكينة.
وتقع على عاتق الناس مسؤولية تطبيق الإرشادات لحيواتهم، وأي تدخل يعبث بالماكينات ويعرضها للتدمير، وبالنسبة إلى المفكرين الإسلاميين الأصوليين، فإنّ هذه هي الصورة التي يملكونها تحديدا، وهم لا يرون في الناس كيانات اجتماعية نشطة في حوار مع الله، بل مجرد كائنات توجد في فضاء منفصل عنه، وعليه فاستخدام العلوم الاجتماعية لفهم القرآن بالنسبة إليهم، لا يتعدى كونه هراء. ويضيف المفكر المصري الراحل في هذا الكتاب، “أما الخطاب السياسي في العالم الإسلامي فهو ليس بنفس حدة وجمود الخطاب الديني، لكنه يتبع نفس النسق. فهؤلاء الذين يمتلكون السلطة لا يستشيرون الشعوب لدى اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، ويسأل الناس دائما ‘لماذا لا يستشيروننا؟’، فيجيبون ‘قرارنا يعتمد على حقائق لا تعرفونها’، فهم يملكون المعرفة في حين يفتقدها الآخرون. الرسالة الواضحة هنا هي ‘نحن نكتم المعلومات وبما أنك جاهل بها فليس من حقك التظاهر، نحن نعرف ونبني قراراتنا على هذه المعرفة التي لا تملك طريقة للحصول عليها”.
وفي التعبير الديني يعبّر الإقصاء عن نفسه من خلال تصور أن هناك جسرا غير قابل للعبور يوجد بين الله والإنسان، وفي المجال السياسي تتحكم الصفوة بقوة في المعرفة والسلطة، أما غيرهم فيطلق عليهم الجهلة. ويستبطن العوام هذا الفكر، فمن المعتاد أن تسمعهم يقولون “الحكومة تعرف أما نحن فلا”.
ويظهر التباين في توزيع السلطة في مناح أخرى، فالمدرّس مثلا هو من يعرف والطلبة جاهلون، كذلك الأب فهو الذي يعرف وعلى الأبناء الطاعة، أمّا في ما يخص النساء، فهيكل السلطة يظل كما هو، وظيفة الزوجة هي طاعة الزوج وعليها أن تطيع إخوتها الأصغر من الذكور لأنهم رجال ولأنهم كذلك، فالمفترض أن تجربتهم الحياتية جعلتهم يعرفون أكثر. وهذا النوع من التفكير ينتشر في المؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية، فخطيب المسجد حين يسأم من الأسئلة، يقول عادة “لا تسألوا، فكثرة الأسئلة من قلة الإيمان”.
الرقابة والركود يسيران معا، ولأن الخطاب الديني مرتبط بالخطاب العام، فجميع جوانب المجتمع تتدهور نتيجة الرقابة
وما تجدر الإشارة إليه في هذا الخصوص أن الخطاب الديني يتلاعب بالناس عبر استخدام الله كحصن، وفي المجال السياسي تستخدم المعرفة كحصن للتحكم في الناس والسيطرة عليهم وبنفس الطريقة. ويرى أبوزيد أن الحكام يقدمون أنفسهم، بعد الافتراض مبدئيا بأن السلطة الإلهية مطلقة، من خلال استخدام الدين كوسيلة لفرض أفكارهم وتحصين سلطتهم. وكلا الخطابين الديني والسياسي في مصر يؤمن بالحق في الحكم، وكلاهما يستخدم الحقيقة لتبرير هذا الطموح.
ويعتقد المفكر المصري الراحل، بقوة، في فصل الدين عن الدولة كضرورة لحماية الدين من التلاعب السياسي، فحين تعلن الدولة عن اتباعها لدين معيّن، يعاني من ينتمون إلى دين مختلف من الاضطهاد، هذا بالإضافة إلى من ينتمون إلى دين الدولة لكن لا يشاركونها في رؤاها الأصولية، فيصبحون عرضة للاتهام بالكفر أو الهرطقة، أما الدولة العلمانية، التي لا تعطي لدين معين حصانة رسمية، فإنها تمنحه المساحة الكافية التي يحتاجها لملاءمة حاجات الناس، إما هذا أو يصبح الدين سلاحا في أيدي من يملكون السلطة.
ويشير أبوزيد إلى أن الهويّة الإسلامية غالبا ما تتشبث بمفهوم ضيّق للدين، إذ أنه المسلم وليس الإسلام الذي يقاوم التحديث، وهذه المقاومة لم تكن بنفس الحال خلال معظم تاريخنا الإسلامي، فقد حاول أجدادنا، على أحسن ما يكون من التفكير، دمج ما يتاح من المعرفة مع المبادئ القرآنية ثم تطبيق الحلول المناسبة للمشاكل الحديثة.
ويؤكد نصر حامد أبوزيد على أهمية أن نعي بضرورة تغيير الطريقة التي نفكر بها من أجل خلق مجتمع يقوم على الحرية والعدالة، فالخطاب الديني الجديد هو جزء من النداء الواسع للحرية، ومن أجل النجاح في إقامة هذا المجتمع العادل، لا بد أن يكون المواطنون قادرين على التفكير النقدي تجاه أنفسهم بكل حرية، ومازال ـ للأسف ـ معظم العالم العربي اليوم مكبّلا بقيود الخوف، وهي القيود التي تقف في طريق التفكير النقدي والتعبير عن أنفسهم بحرية.
ويطالب أبوزيد ـ من أجل تجذّر مبدأ تجديد الخطاب الديني ـ بإلقاء نظرة طويلة وفاحصة على تراثنا الديني، فلا وجود لمذاهب محصّنة أو بقرات مقدسة غير قابلة للنقد، لأن وجودهما يحصر عملية التجديد وبالنهاية يضعها تحت قيد الرقابة. ولأن الرقابة والركود يسيران معا، وكذلك لأن الخطاب الديني يظل مرتبطا بالخطاب العام، فجميع جوانب المجتمع تتدهور نتيجة هذه الرقابة، والمجتمعات الواثقة والحرة هي وحدها التي تمتلك القدرة على التمرد على التعفن والتحلل، وتحدي الحالة الراهنة هو ما يفتح طرقا للتقدم.
ولا بد للناس أن يكونوا أحرارا في الاقتناع بآراء يراها غيرهم غير صحيحة وقادرين على تحدي الآراء الشائعة وعلى الإسلام أن يحمي هذا الحق، فهذا هو الطريق الوحيد للمضي قدما في النزاهة، وهو الحل الوحيد لبناء مجتمع عادل وحر.