الخطاب الديني: من المؤسسة إلى الفرد/ ابراهيم غرايبة
تشكلَ الخطاب الديني المعاصر في ظل مركزية الدولة وهيمنتها، وتوقفت المؤسسات المجتمعية التي أنشأت على مدى قرون عدة، المذاهب الفقهية الرئيسية والمدونات الدينية. لم تعد في العالم السنّي قائمة تلك المرجعيات والمذاهب التي شكلت وعي الناس وعلاقتهم بالدين، وما لدينا اليوم من خطاب ديني هو خطاب الدولة الذي ترعاه جامعات الدولة ووزاراتها الرسمية، وتنفق عليه من الموارد العامة، وحتى خطاب الجماعات المناهض أو الموازي فإنه لم يكن بعيداً عن خطاب الدولة، يستمد وجوده ووعيه لذاته من خطاب الدولة نفسه أو من أزمته. ويبدو مرجحاً اليوم في صعود الفرد وانسحاب الدولة، أن يتحول الخطاب الديني إلى الفردية.
وتحتم الحالة الدينية القائمة بما اكتنفها من صراعات وحروب دينية ونمو التطرف والكراهية والعنف المنتسب إليها خطاباً دينياً جديداً يواجه الأزمة، أو على الأقل ينسحب من تغذيتها، ويقدم بدائل وتصورات جديدة لعلاقة الدين بالدولة والمجتمع، فمن المؤكد أن تغير دور الدولة يغير الخطاب، ويشمل هذا بالتأكيد فلسفة الدولة وسياساتها.
لم تعد مركزية الدولة قائمة ولم يعد دورها التاريخي قائماً، ولكن الخطاب الديني ما زال خطاب الدولة المركزية المهيمنة، ويعتمد افتراضياً على أدواتها ومؤسساتها التي تغيرت كثيراً وفقدت قدراتها وسلطاتها التي كانت قائمة قبل الشبكية والمعلوماتية، وبعضها تبخر ولم يعد موجوداً، فينشئ الناس اليوم تدينهم وثقافتهم ومواقفهم الدينية اعتماداً على مصادر مستقلة عن الدول والمجتمعات تقع خارج سلطتها وسيادتها.
وفي مرحلة التدفق الهائل في المعلومات والقدرة على تداولها والمشاركة فيها، لم يعد ثمة مجال لخطاب يستند إلى سلطة دينية رسمية أو مجتمعية، ولم تعد ثمة إمكانية لاحتكار معرفة وتفسير وفهم «الحق الذي نزل من السماء»، لم يعد هذا الحق يحتكره أحد، ولم تعد القداسة التي منحت للتاريخ والتراث والتجارب الدينية قائمة على رغم كل ما يرد به على هذه المقولة من حالة الفائض الديني التي تغمر المجتمعات والأفراد والدول على نحو غير مسبوق.
وفي عجز الخطاب الديني عن مواجهة العنف والكراهية الكاسحة اليوم إن لم يكن مسؤولاً عنها أو إن لم تكن تعكس أزمته لم يعد ثمة خيار سوى إعادة النظر في الخطاب نفسه وفي موقعه في الدولة والمجتمع وحدوده وجدواه. فقد أظهرت تطورات الحالة الدينية وتداعياتها أنها ليست فكراً جماعاتياً معزولاً، ولكنها خطاب شامل وجارف يهيمن على الدولة والمجتمعات والثقافة والفكر، وأن التطرف يستمد في واقع الحال وجوده وتأثيره من خطاب ديني عام سائد ومهيمن في مؤسسات الدولة ومن ثقافة كاسحة في المجتمع والمؤسسات التعليمية والدينية. ولم يعد كافياً أن تحظر الجماعات المتطرفة والإرهابية وتلاحق طالما أن مصادر التفكير المتطرف والعنفي راسخة وممكّن لها في الشأن الديني العام والرسمي والتعليم والثقافة السائدة، وستظل احتمالات العنف والتطرف قائمة ومحتملة يمارسها أشخاص لا علاقة لهم بالجماعات المتطرفة والارهابية، إذ يغلب اليوم على المتطرفين اليوم أنهم اكتسبوا حالتهم دون علاقة تنظيمية بالجماعات المتطرفة، بل إن الحكومات والمجتمعات اليوم تجد نفسها في مواجهة نوع من التطرف والإرهاب أشد خطراً وخفاء من إرهاب وتطرف الجماعات المنظمة، لأنها حالات يصعب توقعها أو معرفتها قبل وقوعها.
تبدو وجهة الخطاب الديني الحتمية أن يتحول إلى خطاب فردي، فلم يعد في وسع الدول والسلطات سوى أن تكف عن العمل ضد نفسها بالانسحاب من الشأن الديني، وأن تتشكل الثقافة المجتمعية والمدنية والمؤسسات التعليمية استناداً إلى فلسفة ورؤية لا تمنح قداسة أو حصانة للتجارب الإنسانية التي وصفت زوراً بأنها مقدسة أو حق نزل من السماء.
* كاتب أردني
الحياة