الخطوط الحمراء/ هيفاء بيطار
أثمن إلى حد كبير نصائح الأصدقاء المُحبين بأنني يجب أن ألتزم بالخطوط الحمراء، وبأنني تجاوزتها خاصة في المقالين الأخيرين: «من يمثل الشعب السوري» الذي نُشر في جريدة «السفير»، ومقال «أصدقائي الذين سُجنوا نيابة عني»، الذي نُشر في جريدة «الحياة». ولا أظن أن مواطنا في عالمنا العربي لا يعرف ما هي الخطوط الحمراء، فهي مكابح حرية التفكير وتفوق الوصايا العشر في وضوحها وتشددها، إياك أيها المواطن أن تتحدث بالسياسة أو أن يكون لك تفكيرك الخاص المخالف للآراء والشعارات السائدة. الخطوط الحمراء التي تعني أن نلبس الشخصية التي تُفصل لنا كما تفصل لنا ثيابنا. وأن نتكلم كما يُفترض بنا أن نتكلم. الخطوط الحمراء تعني أن ندفن الحقيقة في الصمت. لأن الصمت أحيانا ليس من ذهب بل هو قبر.
أقول لأصدقائي الأحباء ولكل من أرسل لي رسالة بأنه اعتبر ما كتبته يعبر تماما عما يشعر ويفكر به. فبعد ثلاث سنوات، وقد تحول وطننا السوري إلى بحر من الدماء، وإلى مقابر جماعية للأطفال والشبان، الذين تخثرت الدماء على أجسادهم أو أجزاء من أجسادهم التي تناثرت من القصف أو قُطعت بالساكين والسيوف، ويكون محظوظا من يموت وجسده مُكتمل.
أيه خطوط حمراء تبقى يا أصدقائي؟ تضمحل كل الخطوط الحمراء وتتلاشى أمام نهر الدم السوري، أمام الأحمر القاني الساخن المُشع بلون الثورة، أي حذر سخيف، ولا معنى له، أن نخشى أي شيء ونحن أمام نزيف صاعق لشعب طاش صوابه من هول القتل والظلم وانعدام الضمير العالمي؟ أيه خطوط حمراء علي أن أكون حذرة ألا أتجاوزها وكل صباح يُمطرني شلال الدم السوري وأسمع نشرات الأخبار التي تعدد لنا كم شخصا قتلوا من البراميل المُتفجرة وكم عدد الأطفال منهم، وكم تنظيما جهاديا يدعي أنه سيقف إلى جانب الشعب السوري، ويكون الوقوف بجانبه المزيد والمزيد من القتلى؟
لم أعد أفهم نصائح من نوع: كوني حذرة فأنت الآن في باريس وكل كلمة تكتبينها ستكون تحت المجهر. وبالمناسبة مقالي الذي كتبته: أصدقائي الذين سٌجنوا نيابة عني، كتبته في اللاذقية وكانت الكهرباء مقطوعة. كتبته على جعير المولدات وضوء شمعة. لا يهمني المكان فأنا أينما ذهبت أحمل سوريا داخلي. أحملها على ظهري كصليب، لكنني أؤمن بالقيامة، ليست روحي أغلى من أرواح من قُتلوا، وليس جسدي يستحق الصيانة والعناية أكثر من أجساد أحبتي الذين طعنتهم يد الغدر المتعددة الجنسيات وقدمتهم قرابين للشيطان، كل مرة وأنا أعبر الحدود السورية اللبنانية أكون داخلة إلى الجحيم السوري أو خارجة منه، يخثرني الألم وأنا أرى الجدران مزينة بصور آلاف الشبان الذين ماتوا، ولا أستطيع أن أمنع سؤالا يلح علي لِمَ هم ماتوا وأنا لا أزال على قيد الحـياة ؟ سؤال يتفجر من روحي رغما عني لأن الموت استوطن سوريا، ولأنه الآمر الناهي، ولأن العديد من السوريين كتبوا على صفحتهم على «الفيسبوك» بأن تعريف الحياة في سوريا هو: الموت. ولأن أكثر كلمة يستعملها السوريون هي: «الله يرحمه». ولأن النشاط الاجتماعي الوحيد هو التعازي، ولأن كل الأعياد والمناسبات تكون في المقابر، حيث يلتقي السوريون موالين ومعارضين في المقابر يبكون أحباءهم الذين ماتوا. صار الموت هو القاسم المشترك الأعظم لكل السوريين مهما اختلفت ولاءاتهم وطوائفهم.
أصدقائي أشكركم على حرصكم علي وعلى تحذيركم لي بوجوب التزام الخطوط الحمراء. صدقا لم أعد أجدها ولا أحس بها، أمام وطن تحول إلى بحر من دماء أبنائه. فلتذهب الخطوط الحمراء إلى الجحيم.
السفير