الخلاف الخليجي والتردّي المصري معاً/ غازي دحمان
أعادت أحداث الربيع العربي ترسيخ مفهوم الفضاء العربي، حقيقةً جيوسياسية موضوعية، كانت تفرض ذاتها، منتصف سنة 2011، بقوة، على واقع السياسة الدولية، وتهيأت أدبياتها لإدماج هذا المتغيّر في بنيتها الفكرية، وضمن أدواتها التحليلية، عندما باشرت الحديث عن ربيعٍ عربي، وبدا أن الأمر تلزمه فقط ترتيباتٌ في مستوياتٍ معينةٍ، ضمن النظام الإقليمي العربي، تضمن إعادة صياغة الفعالية العربية، بطريقةٍ أكثر تأثيراً وحضوراً. وتفيد استعادة قراءة المشهد العربي، عشية انطلاق الثورات الشعبية في عدد من الدول، بأن إمكانية الاستفادة من زخمها، لفرض معطى عربي على الصعيد الدولي، كان يتطلّب تحقيق شرطين: الأول ملاقاة تلك الثورات المنطلقة على مستوى القاعدة الجماهيرية، بثورة تتشكّل على مستوى الإدراك السياسي في دول الخليج. والثاني، استعادة مصر فعاليتها السياسية بوصفها الدولة العربية الكبرى.
واقعياً، يعتبر الخليج الإطار الأكثر أهمية في العالم العربي، نظراً لحالة التطور في التنسيق والقيادة التي وصل إليها، وبما يملكه من مزايا استراتيجية تؤهله لأن يكون قوةً معتبرةً على الصعيدين الإقليمي والعربي. وانطلاقاً من ذلك، كان في تقدير ثوراتٍ كثيرةٍ أن يشكل الخليج شبكة أمان لها، بضمان دمجها في بيئةٍ إقليميةٍ أوسع، وتوظيف طاقتها لتظهير حالة عربيةٍ مختلفة، وفرصة لإخراج دولها من المدارات الإسرائيلية والإيرانية والتركية، وذلك كله إذا عمل العقل الاستراتيجي الخليجي على الاستفادة من الفرصة التي توفرها الثورات العربية.
ما حصل أن الخلاف الخليجي ـ الخليجي، والذي سبّبته الاختلافات في الرؤى والمصالح في إدارة شؤون المرحلة، صار إحدى علل الواقع العربي، حيث لا يبدو ثمة أفق لعلاجه، والإشكالية أن الخلافات تتطور بانسيابية، وهي تلامس حدود القطيعة والعداء، فالواضح أن ديناميات النزاع يجري تطويرها أكثر من الاهتمام بإيجاد استراتيجية لحلها، وكان الأولى بدول الخليج الالتفات إلى بناء فضائها الجيوسياسي المشرقي، وصرف الطاقة الكبرى فيها بدلاً من الانهماك بالخلافات البينية. وعلى الرغم من الإدراك الخليجي بالمخاطر ومصادرها، إلا إنه لم يجر تحويل ذلك الإدراك إلى استراتيجيات فاعلة لمواجهتها.
“انقلبت مصر على روحية الربيع وأهدافه والمطلوب منه، وما حصل أن جزءاً كبيراً من نخبها التي كانت في قيادة الربيع العربي تراجعت، حتى أنها اختفت ولم يعد لها أثر، لصالح حالة أوتوقراطية عسكرية.
وكان لثورة مصر، باعتبارها البلد الأكبر في المنظومة العربية، والقائدة لنسق ربيعه، فرصة للتموضع في إطار وضع عربي جديد، وكانت إمكاناتها تمنحها فرصة للتمدّد إلى فضائه والاستفادة ممّا يوفره لها من قوةٍ تفاوضيةٍ، وإطار إقليمي، يمنحها هوامش أوسع للحركة والتطور.
ما حصل أن مصر انقلبت على روحية الربيع وأهدافه والمطلوب منه، وما حصل أن جزءاً كبيراً من نُخَبها التي كانت في قيادة الربيع العربي تراجعت، حتى أنها اختفت ولم يعد لها أثر، لصالح حالة أوتوقراطية عسكرية. أين النخبة التي فجّرت الثورة؟ ألم يؤشر تفجّرها على نضوج وعي معيّن؟ قد يقول بعضهم إن تلك النخب كانت ضحية الانقلاب الذي أبعدها عن السلطة. حسناً، لكن، أين ملامحها وحراكها، وهل يموت ضمير النخب لمجرد تعرضها للقمع، وهل تتعطل عن التفكير والنقد والاعتراض؟!
ربما ليس هذا وقت محاكمة نخب مصر، لكن، الأكيد أن غيابها أدى إلى غياب المشروع المصري الذي نتج عنه تراجع سياسات مصر واستراتيجياتها إلى تكتيكات أمنية، كيدية في الغالب، ضد بعض العرب وفئات كبيرة من مواطنيها، تحت ذرائع واهنة، ذات أبعاد سلطوية آنية. وما حصل، أَيضاً، أن مصر باتت بلا هوية، ولا توجهات ولا استراتيجيات، وحتى في زمن حسني مبارك كان يمكن ملاحظة مستوى أكبر من الفعالية، حينها كان لمصر سياسات نيلية وعربية وأفريقية.
واليوم، ومصر تدخل في حالة سباتٍ غريبةٍ، كان مأمولاً أن ترتقي درجة أعلى في سلّم القوة والحضور، بعدما تخلّصت من المعيقات التي ثارت عليها، من عطالة الدور الإقليمي وبهتان الحضور الدولي، وتضاؤل الفعالية الحضارية، وكان متوقعاً لمصر، أيضاً، تحقيق قوة دبلوماسية، وتأثير قيادي يوازن أدوار القوى الإقليمية، وينهي حالة الاستقطاب بينها على الدول العربية. بالتأكيد، لم يكن مطلوباً من مصر التورط في الانخراط بصراعات الدواخل العربية، لكن تحولها إلى قوة إقليمية سيفرض، بطبيعة الحال، بيئة يكون لها تأثير واضح فيها لامتداد مصالحها، وبحكم الروابط التاريخية مع التخوم التي ستمتد إليها تأثيراتها، ستتشكل ظروف موضوعية لقوة عربية أكثر تماسكاً وحضوراً.
كان يستحسن لمصر إعادة صياغة توجهاتها، بحيث يكون العالم العربي في قلبها، وكانت فرصة نادرة، لم تستثمرها، فيما القيادات الحكيمة هي التي تلتقط الفرص التاريخية. وتعاطت دول الخليج والقيادة المصرية مع الربيع العربي بمنطق السلامة بأقل الأضرار، ولم تتعامل معه بمنطق مشروع قومي إقليمي، يتم استثمار نتائجه على المستوى العالمي.
تكمن حساسية هذين المتغيّرين في أنهما حصلا في وقت تتسارع فيه المتغيّرات، من انهيار بنى الدولة العربية، ودخولها أطوار التفكك في أكثر من مكان، وانهيار القضية الفلسطينية ووصولها إلى حالة كارثية، ونهوض الأدوار الإقليمية لدول الجوار بشراسة، بالتزامن مع الفوضى الحاصلة في النظام الدولي. وتتطلّب هذه المتغيّرات وجود قوى واعية لمواجهتها، والخروج بأقل الخسائر من خضمّها، لكن الأكيد أن فرصة الاستفادة من زخم الثورات، للانتقال إلى وضع عربي أفضل، استنفدت لعدم استفادتها ممّا كان يفترض أن يشكل روافع سياسية لها، الخليج ومصر، وما علينا سوى انتظار مزيد من المفاجآت والأنباء غير السارّة.
العربي الجديد