رشا عمرانصفحات الثقافة

الخمسون وسن اليأس/ رشا عمران

 

 

“هل يحدث مع أحدكم أن يستيقظ صبيحة يوم ما، ولديه فائض من العاطفة، لا يعرف أين يذهب بها، ثم يشعر أنه سوف يفتح باب البيت، وينزل إلى الشارع، ويعانق البشر العابرين، ويخبرهم كم يحبهم ويبكي، وهو يشعر أن قلبه يكاد ينخلع من الوجد؟ هذا ما حدث معي صبيحة اليوم، هل بدأت علائم الجنون تظهر علي؟”.

قبل أيام، كتبت ما سبق على صفحتي في “فيسبوك”، وهو بالضبط ما كان إحساسي لحظتها، ومن تعليقات التي وردتني، من صديق: (أنا قبل سن اليأس، كنت أصاب بهكذا حالات، الآن تحسنت). نبهني التعليق إلى أنني فعلا ربما أكون بمرحلة سن اليأس، وما يحدث معي من انقلابات نفسية مفاجئة، ربما مرده التغيير الهرموني الطبيعي الذي يفترض أنني أمر به في هذه المرحلة من عمري، وأنا أتعدى الخمسين. ولكن، هل حقيقة أنا أعبر سن اليأس اليوم؟ وهل انقلاباتي النفسية جديدة؟ أراقب ما هي عليه حياتي، وأراقب أدائي في الحياة، ثم أقول: ما زلت شابة، لدي الطاقة نفسها على العيش، وربما أكثر من قبل، مازلت قادرة على المشي مسافات طويلة، وقادرة على السهر الطويل، وقادرة على الذهاب للرقص مرتين في الأسبوع، دونما تعب. ما زلت قادرة على الغناء في أي مكان، وعلى الاستمتاع بما أفعل، كأن أغني مع صوت أم كلثوم في التاكسي، أو في المقهى، أو حتى في الشارع، وأنا أسير بشكل عادي، من دون أدنى تحفظ، ما زلت قادرة على الاستمتاع بالطهي، باختراع وصفات خاصة بي، بدعوة أصدقائي لتذوق ما أطبخه.

مازلت أستمتع بعبارات الغزل، وأطلب المزيد، ما زلت حريصة على المكياج الذي يبرز مساحة عيني، إذ بقيت، إلى الآن، أعتقد أن سر روح الأنثى يظهر في عينيها، وفي سر روحها بالضبط يكمن جمالها. مازلت قادرة على الدهشة، وأنا اقرأ كتابا ممتعا، أو نصاً شعرياً جديداً، أو لم أقرأه في السابق. مازلت أعجب بالكتابة الطازجة، الكتابة التي تخطف الروح وتخضها. ما زلت قادرة على كتابة الشعر، وقادرة على الإعجاب بما أكتب، ولو لم يعجب الآخرين. مازال بي هذا النزق نفسه الذي كان الآخرون يختبرونه بي قبل أعوام طويلة. مازلت حين أغضب أضرب قدمي بالأرض وأمشي. مازلت أحلم أن أحِب وأحَب، بل وأن يتلف الحب قلبي، إذ ما زلت أعتقد أن قلبي قابل للشفاء، مهما أصابه التلف. مازلت أتبع حدسي في العلاقة مع البشر والمدن والأشياء، حدسي الذي قلما خانني أو غدر بي. مازلت أترك تلك العتبة الرقيقة التي تمنع عني نتائج الأذى الممضة، ومازلت أسمح، راضية، لبعضهم، بتخطيها وبأذيتي، مهما كانت النتائج، مازلت غير قادرة على وضع حسابات للقادم من الزمن. لم أنضج بما فيه الكفاية لأفعل هذا، ولهذا أعيش اليوم فقط، أمسي ذهب بكل مافيه، وغدي لا يهمني ليأت كما يريد، مازلت أرى الحرية الكاملة في التخلص من كل ما يشد إلى الماضي: ترسبات التربية والبيئة والأيديولوجيات والعقائد والشعارات الطنانة والقضايا العظيمة، والأهم، التخلص من الملكية. أنا الآن لا أملك شيئا، هكذا كنت من قبل، وهكذا أعيش الآن. مازلت أرى في الصداقات الحقيقية ما يغني الروح. لهذا، ربما أنتقي أصدقائي بدقة، ونادراً ما أصاب بخيبات الصداقة. مازلت لا أرى من الكأس إلا نصفها الممتلئ، حتى في كأس الموت. مازلت أصاب بنوبات الأرق، ووسط الأرق، أُصاب بنوبات خوف مفاجئة، وأخترع وسائلي الشخصية لتخطيها. مازلت تماماً، وأنا في الواحدة والخمسين، كما كنت في الواحدة والتلاثين، كأن العشرين سنة الماضية لم تفعل فعلها، سوى في شكل جسدي، الفارق فقط أنني، الآن، أكثر جرأة للتحدث عن هذا كله، وللاعتراف بلحظات ضعفي، فإن كان هذا من علائم سن اليأس، فأنا في هذه السن منذ عشرين عاماً، وأحب أن أبقى كذلك، طالما أنا على قيد الحياة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى