الخيار الثالث مسؤوليتنا كمثقفين
عقل العويط
بعضنا، وأخصّ قسماً من المثقفين، يمارس الابتزاز “المنطقي” الآتي: انطلاقاً من أن النتائج السياسية المترتبة على الثورات الجارية في العالم العربي غير واضحة المعالم، على مستوى أنظمة الحكم المحتملة، فإن الشعوب والقوى المجتمعية الخلاّقة، وخصوصاً أهل الأفكار والجماعات والهيئات الثقافية الحرة، فضلاً عن الأفراد، مدعوون الى التحفظ عن تأييد هذه الثورات.
في رأيي المتواضع، أن مثل هذا الابتزاز يجعل موقف هؤلاء المثقفين يصبّ “موضوعياً”، على رغم إرادتهم ربما، لمصلحة تأبيد الأنظمة الديكتاتورية القائمة، انطلاقاً من نظرية مفادها أننا نعرف مساوئ هذه الأنظمة لكننا لا نعرف ماذا يخبّئ المستقبل من مفاجآت قد تكون أكثر سوءاً وظلامية واستبداداً مما هو عليه الواقع الراهن.
يجب أن نكون واضحين، كمثقفين، في مسألة الثورات، وفي مسألة هذا الابتزاز “المنطقي” بالذات. لا أحد يجب، أو يستطيع، أن يضع أحداً أمام المعادلة “الترهيبية” الآتية: إما هذه الأنظمة الديكتاتورية، وإما المصير المجهول… الذي قد يكون معلوماً، أي سلبياً، في بعض ملامحه الأولية والمباشرة على الأقل. أياً تكن الأسباب التي تحمل أصحاب هذا التحفظ على الخوف وإبداء القلق والفرملة حيال تأييد الثورات، وخصوصاً ما يتعلق باحتمالات التغيير لصالح الاتجاه الإسلامي المتطرف، فإن المعادلة المشار إليها تنطوي على استبداد “منطقي”، ثقافي وعقلي هائل، أين منه استبداد مريدي هذه الأنظمة. هذا من شأنه أن يضعنا جميعنا أمام السؤال الفجّ والحادّ: ماذا يجب أن نفعل الآن، لتخطي هذه المعادلة التي توضع المجتمعات العربية أمامها، كأنها هي الخيار الوحيد المتاح؟
من المعيب والمهين والمقلق جداً أن يكون الجواب “جاهزاً”، ومفروضاً كأمر واقع جديد: بما أن الاحتمال الإسلامي هو الأكثر قابلية لتسلم الحكم بعد سقوط الأنظمة القائمة، فإننا مدعوون الى التعايش مع الوضع الاستبدادي القائم.
لماذا هو معيب ومهين ومقلق؟ لأنه يفضي بكل بساطة، الى تأجيل البحث عن آفاق للخروج من الليل العربي الطويل، الجاثم منذ أكثر من نصف قرن على الصدور وفي العقول. بل يفضي عملياً الى إدامة النظام الاستبدادي العربي القائم.
إذا كان المنادون بالثورات والقائمون بها لا يملكون حلولاً سياسية، وإذا كان المفكرون السياسيون ومدبّجو الآراء والأفكار من صانعي الرؤى السياسية، ومعهم القوى المدنية الحرّة، لا يستطيعون أن يشكلوا قوة ثالثة، ولا أن يقترحوا دساتير وقوانين سياسية وبنيوية خلاّقة، تلائم المرحلة الانتقالية الجارية، فمن العار أن يتلخص “الحلّ” في دفع الشعوب الى الاستمرار في قبول الأمر الواقع. أي الى اليأس. وإذا كان من حق بعض المفكرين السياسيين والمثقفين وأهل الرأي والكتابة، الذين يطلقون الأوصاف السلبية المعلّبة على ما يجري، أن يطالبوا الناس بالتعقل والحكمة، فليس من حقهم البتّة، الدعوة الى فرملة تأييدهم للثورات، بحجة غياب البديل الديموقراطي الجاهز والمعلّب. وليس من حقهم أيضاً تبخيس هذه الثورات وكيل التهم الفظيعة لها.
البديل الديموقراطي، هو حصيلة ابتداع تراكمات ليست متوافرة، وهذا يفترض بدء مسيرة طويلة في هذا المجال، من طبيعتها أنها ستكون طويلة، شاقة، صعبة، ومليئة بالفخاخ والمرارات، لكن أيضاً بالبطولات والتضحيات و… الآمال.
لقد سبقتنا، جميعنا، هذه الثورات. وجعلتنا نلهث وراءها. لقد تخطت الديموقراطيين والمثقفين والمفكرين والسياسيين والتغييريين جميعاً. وتخطّت خصوصاً كل الذين اقترحوا في السابق أفكاراً سياسية تغييرية في العالم العربي لم تشق طريقها الى الواقع.
نحن الآن أمام لحظة انهيار النظام السياسي العربي، وأمام عجز الأفكار وموتها. لكن المثقف مدعوّ، شأنه شأن المفكر السياسي، الى استيعاب هذا التحدي الكبير. وأقول علناً، إنه على رغم العلل والعيوب التي تعشش في جسم هذه الثورات، وعلى رغم نقاط ضعفها، وعلى رغم الالتباس المقيم فيها، وغموضها، فهذا كله يجب ألا يشكل، على وجاهته، سبباً مانعاً لتأييد هذه الثورات.
طبعاً، أنا خائف من الخيار الاسلامي الظلامي. لكن خوفي هذا لا يدفعني الى تيئيس الناس، ولا الى الاستسلام الثقافي.
المرحلة الراهنة، لن تحمل إلينا حلولاً عجائبية فورية. لن تنقلنا فوراً الى الجنّة الديموقراطية. مخطئ من يتوهم ذلك. مخطئ أيضاً من يدعو الى الاحتماء بالأنظمة خوفاً من الإسلاميين.
فلنساهم فحسب في البحث عن سبل استيلاد الخيار الديموقراطي الثالث. فهو خيارنا الوحيد.
النهار