الخيانة والتخوين في اللغة، الأقوال، السرد/ نبيل سليمان
من منا لا يذكر قصيدة بدر شاكر السياب “غريب على الخليج”، التي كتبها في الكويت سنة 1953، وبخاصة منها هذه السطور:
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون؟
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
أما أني جعلت هذه السطور فاتحة القول فلأن حديث التخوين قد فشا أقوى فأقوى، وأفحش فأفحش، سنة بعد سنة، منذ زلزلت الأرض العربية زلزالها سنة 2011، وبخاصة في العراق وسورية وليبيا واليمن.
هذا الوباء:
من أفدح آثار الديكتاتورية والاستبداد والطغيان: انتشار التخوين كما الوباء. ويتضاعف ذلك كلما طال الزمن حتى يبلغ ذلك الثلاثي شيخوخته وتعفّنه، مترافقاً مع تفاقم عجز المعارضة، أو المعارضات، عن التغيير، واستفحال العلل في جسدها. لكن انتشار الوباء ليس وقفاً على زمن ذلك الثلاثي، بل يحضر أيضاً بدرجات متفاوتة وأشكال شتى في زمن الثورة أو الانتفاضة أو العصيان، وبخاصة كلما تأخر الانتصار، أو بدأ التراجع، أو كرّت الهزائم، أو دبّ القنوط والوهن، أو تضاعفت الصعوبات والتحديات… ومن تجليات ذلك في سورية يمكن أن نعدد:
1- التخوين المتبادل بين كثرة من الموالين للنظام ومن المعارضين.
2- في الضفة الموالية كما في الضفة المعارضة من يخوّنون كثر أو أكثر ممن هم في الضفة الثالثة المختلفة مع تينك الضفتين بقدر أو أكبر.
3- في الضفة الثالثة أيضاً من يخونون رهطاً من الموالين أو المعارضين.
4- كما أن الخيانة قد تكون صريحة أو مواربة، هو أيضاً التخوين، يمكن أن يكون صريحاً أو موارباً، وهكذا تصبح المعادلة:
الاتهام الصريح بالخيانة الصريحة.
الاتهام الصريح بالخيانة المواربة.
الاتهام الموارب بالخيانة الصريحة.
الاتهام الموارب بالخيانة المواربة.
ومن صفات هذا الوباء البارزة: مجانية الاتهام، واستسهال الحكم المطلق، كما العودة عنه والتبرئة منه. كذلك هي العصبوية، واللغة الشتائمية حدّ الضرب تحت الزنار، واستخدام الأساليب التعبيرية للشبيحة وعباراتهم. وهكذا، يصير الاختلاف مدمِّراً بدلاً من أن يكون مخصِباً، وموطوءاً بالتخوين ومأسوراً بالاصطفاف، فهل يكفي ذلك كي نبدأ محاولات وعي فداحة الوباء ودرءه؟
في اللغة:
تجود القومسة العربية بالكثير في الخيانة. ومن ذلك أن تقول: خان/ يخون/ خَوْناً وخيانة وخانة ومخانة. والمخانة مصدر من الخيانة. ومن ذلك أيضاً أن تقول: رجل خائن، ورجل خائنه، وما من خطأ في التأنيث، باعتبار الهاء للمبالغة، مثلها مثل هاء: علّامه، نسّابه.. والخائنة تأتي أيضاً بمعنى الخيانة. ونقول هذا خوّان، وخؤون، والجمع: هؤلاء خانة، وهؤلاء خَوْنة بتسكين الواو، وهذه لفظة شاذة كما يحكم ابن منظور. ويقال: خوّن الرجل، أي نسبه إلى الخَوْن، والخَوْن: فترة من النظر، وأيضاً: المخانة. وأن نقول: خانه الدهر والنعيم خوناً، معناه أن حاله تغير إلى شر منها.
ويقال: خوّنه، وتخوّنه، وخوّن منه، أي: تنقّصه، كأن تقول: تخوّنني فلان حقّي، أي: تنقّصني حقّي، وتخوّنته الدهور: تنقّصته. كما يقال: خوّنه وتخوّنه: تعهّده، والتخوّن: التعهّد. والعرب تسمّي شهر ربيع الأول: خَوّاناً، وخُوّاناً، والخَوّانة هي الإست، والخوّان من أسماء الأسد الذي يقال له: خائن الأعين. وفي القرآن: “يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور”، وخائنة الأعين هي ما تُسارِقُ من النظر إلى ما لا يحلّ. أما القول خانه سيفه فالمعنى: نبا، ومنه: السيف أخوك وربما خانك.
وفي القرآن أيضاً: “علم الله أنكم تختانون أنفسكم” أما في الحديث النبوي فقد حضرت الخيانة ومتعلقاتها، ومنه: “المؤمن يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب” ومنه النهي من أن يطرق الرجل أهله ليلاً لئلا يتخوّنهم، أي يطلب خيانتهم وعثراتهم ويتهمهم. ومنه أن الرسول رد شهادة الخائن والخائنة، كأنه قال: إياكم والخيانة فإنها بئست البطانة. وفي الحديث أيضاً: “ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، أي يضمر في نفسه غير ما يظهره، فإذا كفّ لسانه وأومأ بعينه فقد خان”.
في الأقوال:
وأبدأ مذكراً بكتاب إدوارد سعيد “خيانة المثقفين”، ثم أثنّي بقولة غيفارا: “لاشيء أسوأ من خيانة القلم، فالرصاص قد يقتل أفراداً، بينما يقتل القلم الخائن أمماً”. ومن تراثنا أختار قولة أبي بكر الصديق: “أكذب الكذب الخيانة”، وهذا البيت الشعري اليائس لمحمد بن القاسم الهاشمي: “تولت بهجة الدنيا فكل جديدها خَلَقُ/ وخان الناس كلهم فما أدري بمن أثقُ”. وللخيانة المواربة، هوذا قول معن بن أوس: “أعلّمه الرماية كل يوم/ فلما اشتدّ ساعده رماني”. وقد قال الأعور الشني: “لا تأمنّن امرأً خان امرأً أبداً/ إنْ من الناس ذا وجهين خوّانا”. أما أبو ذر الغفاري فقد قال لمعاوية حين رآه يبني قصراً باذخاً: “إذا كان هذا من مالك فهو الإسراف، وإن كان من مال الأمة، فهي الخيانة”.
من بدايات أسطرة الخيانة التراثية ما يروى عن عمل أبي رغال كدليل للغزو الحبشي لمكة عام 570م؛ فغدا مضرب مثل ورمزاً للشيطان. كذلك هو تسليم يهوذا الإسخريوطي للمسيح مقابل ثلاثين قطعة من الفضة. وليس لواحدنا أن ينسى ابن العلقمي الذي سهّل للتتار دخول بغداد، وهو وزير الخليفة المستعصم بالله. كذلك هو شاور وزير الخليفة الفاطمي العاضد، الذي راسل الصليبيين وانضم إليهم، فشارك في حصار الإسكندرية. ومن المحدثين هوذا عباس محمود العقاد يقرر: “لا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ”. وهذا غسان كنفاني يقول: “إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة”، ويقول عبده خال: “الخيانة كالهواء تدلف إلى منازلنا بمجرد فتح الباب”. ويتلاقى صلاح خلف وناجي العلي في أخشى ما يخشيان من أن “تصبح الخيانة وجهة نظر”، وهي العبارة التي رددها طويلاً موالون للنظام في سورية.
في المثل الشعبي الجزائري يقال: “الدم ما يخون الدم ويا ويل من خانوا ذراعو”، و: “الحرب حكّاك والخاين شكّاك”.
وفي المثل الشعبي الحضرمي (حضرموت): “الخيانة هيانة” أيْ من خان هان. وفي المثل الحجازي يقال: “الخيانة زي الموت لا رجعة فيها”. وفي المثل الفرنسي: “الخيانة تُغفر ولا تنسى” وكذلك: “الخيانة أشد من القتل”. وكانت (البيتانية) قد ظهرت في القاموس السياسي والشعبي الفرنسي، نسبة إلى الجنرال بيتان، بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى، و(الخائن) الذي تزعم حكومة فيشي كما شاء الألمان في الحرب العالمية الثانية.
في المثل الإيرلندي يقال: “من الأفضل أن يكون أمامك أسد مفترس على أن يكون خلفك كلب خائن”. ومما أحفظ في الخيانة هذا المثل: “حرّض ولا تخون”، وقول عدنان مردم بك: “إن الخيانة ليس يغسلها/ من خاطئ دمعٌ ولا ندم” ومما نسيت قائله: “الخيانة كالموت، لا تسمح البتّة بالفوارق”. وفي كل ما تقدم، يلتحم ويتناسل التخوين والخيانة.
في السرد:
من فيض سردي يتصل بالخيانة والتخوين، اخترت قصة (الخائن) لعبد السلام العجيلي (1918-2006). والقصة في مجموعة بالعنوان نفسه صدرت عام 1960. وقد اخترت القصة لأن بطلها الضابط الذي أعدم بتهمة الخيانة، هو صورة لأي ضابط رفض الأمر بقمع المظاهرات السلمية، ويعزز ذلك أن القصة اعتمدت استراتيجية اللاتعيين في المكان والزمان والشخصية. والقصة بالتالي، وكما يليق ويجدر بالإبداع أن يكون، تخترق حجب النسيان والديكتاتورية بين زمن كتابتها أو نشرها وزماننا.
أمام المحكمة العسكرية يلقي النقيب الشاب بمرافعته التي هي ردّه على النائب العام العسكري، وقد قرر أن يقول كل شيء، أي كل (الحقائق الصغرى) المتعلقة بالتهمة التي لا يراها تهمة تقتل، كما يخاطب رئيس المحكمة: “بل هي سبّة تلحق روحي بعد الموت”. والتهمة هي عصيان الأوامر العسكرية “بقتل المواطنين الأبرياء” والتآمر على كيان الدولة والنظام القائم “وفوق ذلك كله أنا متهم بأني خائن”.
في المرافعة التي هي القصة، يروي المتهم أنه قد أنيط بعاتقه الواجب الذي توسم القادة الأعلون كفاءته للقيام به، بينما مرض رئيسه، واستدعي رئيس رئيسه إلى مهمة في بلدة نائية، للملص من ذلك الواجب، وخلاصته أن ثورة على الثورة ستقوم في المنطقة التي تعسكر فيها فرقة الضابط الذي حسب أنها “فرصة ثورتنا العظيمة التي لا تعوض للخلاص من الانهزاميين والرجعيين والمخربين، ومن كل من يضع في عجلة التقدم والثورة عصا مجرمة”.
من حقائق المتهم الصغرى أن ثمة ألواناً للثورة. وهو يدحض النائب العام الذي اكتفى بشهادة سلمى خطيبة المتهم وحبيبته التي يرى أنها قالت الحق، لكنها لم تقل الحق كله، إذ روت أنه خالف الأوامر الصريحة، ووجّه نار رشاشات وحدته العسكرية إلى المظاهرة التي حملت علم الثورة، وحبالاً للخنق وأعمدة للشنق وسواطير تفلق الهامات، أي إن سلمى روت انقلاب المتهم فجأة، لكنها لم تقل أي ثورة خان، ولا أحد يستطيع مثل سلمى أن يميز بين الثورة التي خانها، والثورة التي لا يزال مخلصاً لها: “الثورة الحقيقية لم أخنها ولن أخونها”. ويسرد المتهم كيف أنه كان وسلمى قبل الثورة ممتلئين بمشاعر واحدة نحو أعداء الوطن، وكيف وحّد انتصار الثورة بين قلبيهما، وكيف اكتشفا التباين بينهما في معنى الثورة، فهو يراها ثورة الوطن، وهي تراها ثورة الشعب. والوطن بحسبان المتهم هو القيمة المعنوية للكمية المادية التي اسمها الشعب. ولأن للثورة في النفوس مثل أثر الخمرة في الرؤوس، فقد سكرت سلمى وتبدل سلوكها. ولأنها عضو مهمة في منظمة شعبية ذات نفوذ كبير، فقد كانت تتمكن من الحضور كل ليلة إلى مقر قيادة المتهم. وفي الليلة التي سبقت العصيان أطلعته على سرها: صباحاً سيقوم العصيان المبيت، وسوف يبدأ بمظاهرة سلمية ستنقلب بعد دقائق إلى تقتيل وتذبيح وتدمير. أما من دبّر ذلك – تفضح سلمى – فهم أولو الأمر، فالمظاهرة السلمية سيقوم بها نفر من الشرفاء ينادون بالولاء للثورة، لكنهم يستنكرون الإباحية وتحديات المتطرفين لعقائد الأمة وللمثل العليا للثورة. وسوف تتصدى للمظاهرة السلمية أخرى مسلحة، وستكون مجزرة يموت فيها أبناء الشعب لتحيا ثورة الشعب “فالثورة لا تحيا إذا لم تنقذ بالدماء”، ومهمة الضابط أن يترك حرية التصرف للمظاهرة القامعة. غير أن ما كان يحجب عن بصيرته النور والحق، تبدد عندما تكومت جموع السلمية كقطيع غنم هاجمته الذئاب فتلاشى سحر سلمى، وأمر الضابط جنوده بحصد جماعة الذئاب. وينهي الضابط المرافعة – القصة بأنه غير نادم، وبأنه فخور بالخيانة التي يُدان بها.
تلك واحدة من سرديات الخيانة، والخيانة قد تكون الخيانة الزوجية، وقد تكون خيانة الجاسوسية، وقد تكون خيانة من ظل يعمل سراً في مقاومة الطغيان، وإن يكن في الظاهر واحداً من أركان هذا الطغيان. وفي هذا النمط الأخير من الخيانة يكون التخوين أمضى وأمرّ، مما يتقاطع مع الجاسوسية المزدوجة، حيث يمكن ألا تظهر براءة المتهم إلا بعد موته. وفي هذا السياق، ومن فيض سردي – مرة أخرى – أشير إلى رواية لينا هويان الحسن “الذئاب لا تنسى”، وفيها: “الذئاب لا تنسى، أيضاً لا تخون بعضها. الخيانة ميزتنا نحن البشر. الخيانات لنا. السبب المفضل للأدب هو الخيانة. تبدو كناموس مرتجل يدفعنا لخيانة الأغلبية، الكل، الجميع. علينا أن نكون بالنسبة للآخرين خونتهم، لنكتب، لا أنتمي لعالم الإخلاص، لأن الأخلاق تفرضه علينا كمدرسة لها عسسها”. وبالطبع، لا ينبغي أن يؤخذ بظاهر مثل هذا القول، أو أن يجري إسقاطه الحرفي على حالة مثل حالتنا، حيث أهل التخوين بالمرصاد، وبخاصة منهم من كان في أمس قريب عتلةً في آلة الديكتاتورية. وللحديث صلة.
ضفة ثالثة