صفحات الرأي

الداعية السلفي الذي «سيحكمنا» لا يشبهنا بتاتاً

حازم الأمين
بذل السلفي جهداً كبيراً حتى لا يشبهنا نحن الناس العاديين. في مظهره، وفي منطقه واعتقاده، وفي انماط عيشه، ابتعد عنا مسافات طويلة. وعلى رغم ذلك يُلوّح به بصفته احتمالاً راجحاً، لا بل مصيراً لا بد منه.
فالسلفية خيار شديد الخصوصية في مشرقنا، وهي نخبوية من المستحيل تعميمها، على نحو ما هو مستحيل ان يتحول مجتمع بأكمله الى مجتمع فنانين او مقاتلين او مثليين. هي خيار لا يشبه الحياة الفعلية والواقعية، ومنقطعة عن الكثير من انماط العيش والعمل والارتقاء. فالسلفي اختار الانقطاع عن مسار عام رسمته قرون من الاختبار والانخراط في تجارب جاء هو اليوم ليقول «أوقفوا العمل بها وعودوا الى النصوص». والحال ان المجتمعات التي يسعى السلفي لتغييرها لم تراكم خبراتها في صدام مع النصوص. صحيح انها كيفت النصوص بما ينسجم مع واقعها، لكنها لم تجرؤ يوماً على مد يدها إلى منطوق النص عند مفترقات كان النص فيها عائقاً.
لا قيمة للشرط الثقافي والإجتماعي في القيم السلفية، فالأخيرة نوع من الإسلام العالمي الذي يحتقر الثقافات المحلية ولا يقيم لها وزناً. وهو ان لم يتمكن من احتقارها وتجاوزها، هادنها ممارساً احتقاره لها عبر تقية بالغة الهزال. فالسلفيون التقليديون يُحرمون قتال الحكومات ويطلبون اطاعة أولي الأمر من الحكام، ليس ايماناً بالحكومات والحكام، انما احتقار لهم ولدنياهم، ويبقى سعيهم لاقامة الإمارة في صلب دعواهم.
اذاً ثمة صدام بين السلفية وبين خبراتنا الاجتماعية والثقافية، وهو صدام أول ومؤسس ومعيق لاحتمال اللقاء. انه خروج عن سوية تشكلت على مدى أزمنة وحقبات لا يمكن تجاوزها. لنتأمل مثلاً بشيخ سلفي في مدينة لا تكنّ الكثير من الخصومة للسلفي، كعمان مثلاً. شيخ حليق الشارب طويل اللحية يجلس على مكتب خلف جهاز الكومبيوتر في مبنى حجري حددت أمانة عمان عدد طوابقه بخمسة، واشترطت الأمانة ان يتضمن مدخل المبنى مرأباً ركن فيه الشيخ سيارته الرباعية الدفع.
لا يحتاج الأمر الى مشهد أكثر كثافة حتى تتكشف حقيقة عدم انسجام عناصره، وصعوبة وجودها في مشهد واحد. العلاقة بين العناصر الجامدة في المشهد (مكتب – سيارة – كومبيوتر) وبين ما تمثله السلفية في صورة الشيخ لا تبدو انها قابلة للإنصهار، وهي غير قابلة لأن تكون هادئة على نحو ما يفترضه مشهد عادي وبارد لمكتب في مبنى في مدينة تجري فيها الحياة على نحو عادي.
ليس في هذا الوصف استعارات بعيدة يحتاج تحققها الى خيال خصب. فالصدام اليومي بين السلفي الذي قرر الخروج من التاريخ والتوجه فوراً الى النصوص هو صدام مبتذل لشدة وضوحه. الشيخ السلفي الذي يقود سيارة حديثة رباعية الدفع، لا يندرج جسمه في مقعدها على نحو ما تندرج أجسامنا خلف مقاود سياراتنا، صحيح ان في ذلك قدراً من الخيال، ولكن قيادة السيارة تنطوي أيضاً على قدر من الخيال حتى يقع الانسجام بين السائق وبين سيارته، ذاك ان الأخير لا يكف أثناء قيادته سيارته عن السعي للإيحاء بأنه جزء طبيعي من العربة التي يقودها. لنتأمل مثلاً بالبندقية التي لازمت أسامة بن لادن خلال رسائله التلفزيونية في العقد الفائت. فالرجل اختار البندقية بدقة لتكون جزءاً من صورته. البندقية نفسها تكرر وجودها في كل الرسائل المصورة. وهي ليست بندقية كلاشنيكوف تقليدية، انما معدلة وخاصة، وقد حيكت حولها قصص توحي بأن لها تاريخاً وماضياً، فهي بحسب روايات «جهادية» غير سلفية، غنيمة من ضابط روسي أسره بن لادن في أفغانستان. وفي الوقت الذي كان بن لادن يسعى لادراج صورته في مشهد بندقية، ولتأليف ماضٍ صغير وخاص به، كان شيوخ من السلفية العلمية (خصوم سلفية بن لادن الجهادية) يستهدفون بن لادن مشككين بسلفيته عبر حكاية حرصه على ملازمة آلة زائلة. فالسلفي بحسبهم هو السلفي فقط، وصورته هي صورته غير المشفوعة بآلة وبرغبة في «فروسية» مستمدة من صورة المقاتل الحديث. وهم اليوم ضحايا هذه الصورة التي ثبتوها عن أنفسهم. فالشيخ أنور البلكيمي ما كان ليحدث فينا ما أحدثه عندما أقدم على اجراء عملية تجميل لأنفه، لولا أننا كنا نعتقد انه لا يقيم وزناً لأنفه الكبير، واذ به منشغل، مثلنا، بحقيقة طول أنفه. وبهذا المعنى فإن السلفية في اندراجها في سياقنا العام معرضة للانحلال والتفكك، وإقدامها على الترشح للانتخابات والسعي للتصدر هو بمثابة نفي لـ «لارتاريخيتها»، وانكشاف أمام إغراءات لا يمكن لشيخ قليل الحصانة ان يتفادى السقوط فيها.
نعم، لطالما شعر المرء ان السلفيين بما يعيشونه ويقترحونه علينا انما هم قليلو الحيلة والقوة في عيشهم له، وان النصوص المصطفة في مدراكهم، على نحو ما تصطف الأسطر في صفحات كتاب صامت، غير كافية لصنع حياة، وكم من السهل ان تغزو الدنيا زهدهم المفتعل، لا بل ان الدنيا نجحت في ذلك وكل ما يفعلونه لا يعدو ان يكون مداراة واخفاء لحقيقة اخفاقهم.
ولهذا تراهم اليوم مقتربين منا ومحدثين في اقترابهم ضجيجاً ناجماً عن اصطدام حديدهم بلحمنا، وينجم عن ذلك مفارقة تتمثل في أننا، نحن ضعفاء كونهم المعدني، أكثر جاذبية منهم وأقدر على الفوز بجنتهم. فالداعية الذي كشف عن اقترانه سراً براقصة مصرية، فعل ذلك لأنه مثلنا يحب الراقصات، واسامة بن لادن وضع تلك البندقية الجميلة خلفه ليحاكي فينا، نحن غير السلفيين، أمزجة تشكلت بفعل اقترابنا من صورة المقاتل غير المستمدة من النصوص.
اما من نجح من السلفيين في مقاومة الدنيا، وفي تثبيت النصوص نقية ونهائية في وجدانه، فلن ينافسنا على دنيانا ولا على آخرتنا، ذاك ان انسحابه يشمل أيضاً انسحاباً من ميادين المنافسة. فالداعية الأردني السلفي، الصادق في سلفيته، يقود سيارته رباعية الدفع على نفسه الطريق الذي نسلكه، لكنه لا ينافسنا على شيء. سيارته الحديثة ليست جزءاً من عناصر المنافسة، والراقصة المقيمة في آخر الشارع لا تنتظر قدومه، وهو يعتقد ان اسامة بن لادن ببندقيته الجميلة، هو مثلنا تماماً، ولا يشتهي مبايعته. وطريقه الى الجنة لا تمر من دنيانا على الإطلاق.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى