الدراما السورية تحت سوط السياسة/ أحمد الخليل
رغم ما يظهره المسلسل التلفزيوني بشكل عام من حياد سياسي (إيجابي أو سلبي) إلا أنه يدخل في دائرة الجذب والصراع السياسي مرغماً. فالمسلسل والدراما التلفزيونية باعتبارها لصيقة بجهاز التلفزيون (الأداة الإعلامية الأهم لدى السلطات السياسية) وحاملة لسياساتها، تعتبر من وجهة نظر الحكومة أداة إعلامية ودعائية أكثر مما هي فنية أو ثقافية. لذلك يتأثر العاملون في دراما التلفزيون بالظروف السياسية وطريقة التعاطي معها ومواقفهم منها.
الدراما السورية تأثرت بالأزمة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات وتفرّق العاملون فيها (تيارات وشيعاً) كل بحسب موقفه السياسي. فالأصدقاء في المشهد أمام الكاميرا باتوا أعداء في الكواليس وفي الحياة العامة. والمؤسسة الإعلامية الرسمية كرّست قبل اندلاع الأحداث، مبدأ السيطرة والضبط مع ترك هامش للأعمال الكوميدية كبرغي التنفيس في طنجرة الضغط. هذا الهامش هو استثناء يؤكد القاعدة فبرغي الطنجرة يمنع انفجارها ويزيد فعاليتها. (إذا رجعنا إلى مواقف معظم الفنانين الكوميديين “النقديّين” في دول “الربيع العربي” سنرى تطابقاً بين المواقف الحكومية ومواقفهم تجاه حركات الاحتجاج والتغيير).
يعجّ تاريخ الدراما والمسلسل التلفزيوني بأمثلة تدلل على بنية الجهاز الإعلامي المتولد من البنية السياسية.
حين بدأ التلفزيون بإنتاج سلسلة حمام القيشاني (5 أجزاء)، احتجّ وزير الإعلام آنذاك على ذكر مؤسسي حزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وبعض الرموز السياسية الأخرى وحين ناقشه المخرج هاني الروماني والكاتب دياب عيد بالأمر وأنه لا يمكن صنع مسلسل فيه كل الأحزاب السياسية بالخمسينيات من القرن الماضي دون ذكر مؤسسي هذه الأحزاب ودورهم السياسي خلال سنوات طويلة فكيف يتم ذكر حزب البعث دون ذكر مؤسسيه ورموزه! بعد أخد وردّ طويلين، وافق الوزير على ذكرهم لكن مع الطلب بعدم الإكثار من أسمائهم في المسلسل! الطريف أن حزب البعث هو الحزب الحاكم لكن الخلافات بين أجنحته وخاصة في الستينيات من القرن العشرين جعل الجناح المنتصر يفرض تعتيماً كاملاً على تاريخ الحزب قبل حركة 23 شباط/فبراير وتعزّز الأمر بعد عام 1970.
وفي مسلسل آخر يتحدث عن حقبة الاستعمار الفرنسي استشار مخرج العمل السفارة الفرنسية لكي لا يعكّر صفو العلاقات بين البلدين إذ يستعرض العمل كيفية الإدارة الاستعمارية للبلد. وحسب مخرج العمل قالت له السفارة: “هذا تاريخ بلادكم وأنتم أحرار به. نحن حين ننتج أعمالاً فنية تاريخية لا نستشير أحداً بتاريخنا!”.
وأكثر الأعمال دلالة على تدخّل المؤسّسة الإعلامية بالأعمال الفنية هي الأعمال التلفزيونية التي تتحدث عن الاحتلال التركي، فحين كانت العلاقات السورية التركية تمرّ بمرحلة (الربيع) كان يُطلب من كتّاب الأعمال ومخرجيها حذف المشاهد التي تدين حقبة العثمانيين في سورية والتخفيف قدر الإمكان من المشاهد القاسية للجندرمة وتعامل السلطات المحتلة مع الناس. وبعد اندلاع الاحتجاجات والمظاهرات وما تلاه من جفاء سياسي بداية بين الأتراك والسوريين ثم القطيعة السياسية مع تصاعد الأحداث، عادت كل المقاطع المحذوفة من المسلسلات لا بل طُلب إلى المعنيين التركيز على التوحش التركي (كما هو الحال في مسلسل “أخوة التراب”) إضافة لتصاعد الحديث عن لواء اسكندرون المحتل والذي كان منسياً حتى الأمس!
كما واجهت المؤسسات الإعلامية والأجهزة المتحكّمة بها، مشكلة ظهور علم الاستقلال ذو النجمات الثلاث في كثير من الأعمال التاريخية والبيئية وبعضها في حال إعادة عرضه، تعاد عمليات المونتاج لكي يختفي العلم من خلفيات المشاهد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتد ليشمل بعض الجهات المنتجة والممثلين والمخرجين ممّن لهم موقف سياسي واضح من الأزمة والأحداث لا يتوافق مع السياسة الرسمية. إذ تعرّضت شارات بعض الأعمال لمونتاج جديد حيث تم حذف أسماء الكتّاب والممثلين المناصرين للاحتجاجات. كما هو الحال مع مسلسل “مبروك” حيث حذف من الشارة إسم كاتبه حكم البابا. بينما كل الأعمال التي أنتجتها “شركة الشام الدولية” التي تعود ملكيتها إلى أحد أولاد النائب السابق لرئيس الجمهورية عبد الحليم خدام، تم حذف اللوغو الخاص بها أيضاً كشركة منتجة قبل الثورة بسنوات على خلفية خروج خدام من السلطة ومن البلاد عام 2005.
هذا الأسلوب الأمني المباشر في التعامل مع الدراما، أخرج الفنان أيمن زيدان عن صمته وعلّق في صفحته على “فايسبوك” مستغرباً من هذا السلوك غير المهني الذي قامت به “قناة سما” السورية الخاصة (الدنيا سابقاً) من تشويه لشارة مسلسل “بطل من هذا الزمان”. حيث قامت بحذف عشرات الأسماء من الفنيين والفنانين الذين شاركوا في العمل، وما زاد من استغراب زيدان إسقاط المحطّة لإسم كاتب العمل. يقول زيدان في صفحته: “يعرض على تلفزيون سما مسلسل “بطل من هذا الزمان” وهو عمل أثير إلى قلبي صنعناه يوماً بكثير من الحب والحماسة. لا أدري لماذا تم تشويه شارة العمل التي تعتبر عادة جزءا أساسياً من العمل نفسه”. ويؤكد الفنان زيدان: “ليست المشكلة فقط بتشويهها ولكن بعدم ذكر العشرات من الفنانين والفنيين الذين بذلوا جهوداً جبارة في إنجاز المسلسل، حتى أن الأمر وصل بهم إلى عدم ذكر إسم المؤلف. كم هي محزنة ثقافة الاستخفاف بجهود الآخرين والمسلسل من تأليف واحد من أهم كتاب الكوميديا، ممدوح حمادة، صاحب “ضيعة ضايعة” و”الخربة”.
وهذا ما حدث في “ليل المسافرين” الذي أخرجه أيمن زيدان عام 2000 حيث تم حذف مقاطع منه أدّت إلى تشويه المسلسل حين عرضه عام 2001 لكي يتناسب مع التوافق التركي السوري أثناء تلك الفترة. وبعد إعادة اكتشاف أن الأتراك هم أعداء، تمّ تعديله. يقول زيدان بخصوص إعادة عرض “ليل المسافرين”: “في العرض الجديد اكتشفت أن العقلية المتحكمة بعرض المنتج الدرامي السوري لازالت تفكّر بنفس الطريقة بل ازدادت غباء ووقاحة والقصة تبدأ من الشارة. فمن أجل حذف إسم الشركة المنتجة لاعتبارات لهم الحق في تقديرها، لم يكتفوا بحذف الإسم الذي لا يتعدّى تغيير كادرين فقط، بل قاموا بإلغاء الشارة كاملة واستبدلوها بشارة جديدة صنعت خصيصاً. ولم يقف التشويه عند هذا الحدّ، بل تعدّاه بكثير. كل اللقطات التي يظهر فيها العلم التركي تمّ حذفها واستبدالها بلقطات مكرّرة من الحلقة نفسها وبطريقة اعتباطية جعلتني أظنّ أن هناك خللا فنيا ما في المسلسل”.
ومن أكثر الوقائع دلالة على عدم الفصل بين السياسة والعمل الفني، هو التراجع عن عرض مسلسل “الولادة من الخاصرة”، رغم برمجة المسلسل في الموسم الماضي. هذا عدا الهجوم الإعلامي الشرس الذي تعرّض له كاتب العمل سامر رضوان وتخوينه وخاصة في صفحات المواليين للنظام واتّهامه بأن العمل يسيء للدولة وللأجهزة الأمنية ويركّز على عنفها. الملفت في أمر هذا العمل تعرّضه أيضاً إلى هجوم بعض المعارضين على أنه متواطئ مع السلطة لأنه تعرّض للعنف والسلوك المافيوي التي تقوم به بعض جهات المعارضة المسلحة. أي تمّت محاكمة العمل سياسياً وبشكل ميكانيكي من الطرفين.
وسبق وأن قامت قناة “تلاقي” الرسمية، بحذف صوت المغنية أصالة نصري من شارة مسلسل “نزار قباني” عقاباً لها على مواقفها السياسية. كما صدرت خلال الأحداث قوائم سوداء وبيضاء للفنانين بحسب مواقفهم السياسية. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى المطالبة بسحب الجنسية من فنانين قالوا آراءهم من دون أن يكون لهم أي ارتباط سياسي بأية جهة معارضة. وكذلك قامت بعض الجهات والأشخاص المحسوبين على تيارات معارضة بوضع قوائم بيضاء وسوداء للفنانين كسلوك مشابه تماماً لسلوك الخصم السياسي والدخول في حرب الثنائيات القاتلة (خائن- وطني)، (شبيح – ثوري).
لا مجال للتعدّد ولأي مساحة حرّة للفن أو الإبداع ولا للعزف المنفرد خارج الجوقة التي حدّدت مسارها ونغماتها وحتى نشازها متطلّبات السياسة العاملة تحت شعار “تحت سقف الوطن”.
المدن