صفحات مميزةعلا شيب الدين

الدفاع المستميت عن الوجود الحرّ/ علا شيب الدين

قديماً، سخر السفسطائيون من العفّة والطهارة، ومن القوانين المقدسة التي اعتبروها من عمل الضعفاء لأنهم أعداء كلّ تفوّق، إذ كلّ قانون إنسانيّ لا يفرض تقديسه إلا مَن يستفيد منه. ما أقرب ذاك القديم إلى هذا الحديث المعاصر! فالضعفاء إنسانياً وأخلاقياً حول العالم اليوم، الأقوياء بما يملكون من أدوات التسلط والقهر والجريمة، هم أعداء كل تفوق يمكن أن تحرزه الشعوب في سعيها إلى الحرية والديموقراطية. وعليه، يضعون القوانين التي توائم مصالحهم ومصالح حلفائهم، ويحدّدون متى يجب أن تُقدَّس وتكون ملزِمة ومتى يجب ألاّ تكون كذلك.

أن يستعمل نظامُ عصابة كالنظام في سوريا، السلاح الكيميائي في قتل الشعب السوري، فهذا يندرج في ما يهدد مصالح زعماء العالم وأمن دولهم القومي، ما يتطلب إصدار قرار (2118) ملزِم ومقدَّس من مجلس الأمن، و”اتفاق” أعضاء المجلس جميعاً على اختزال “المسألة” السورية في سلاح كيميائي، ثم يصبح ضارب الكيميائي، شريكاً دولياً و”محاوِراً أساسياً” مرحَّباً بـ”تعاونه” في تفكيك الترسانة السورية الكيميائية! لا بل، استناداً إلى الفقرة 2 من المادة 87 من الدستور السوري التي تنص على أنه “إذا انتهت ولاية رئيس الجمهورية ولم ينتخب رئيس جديد، يستمر رئيس الجمهورية القائم في ممارسة مهامه حتى انتخاب الرئيس الجديد”، سوف يتم تمديد ولاية “الرئيس” الأسد بعد انتهائها في منتصف تموز 2014، وفق ما تتحدث عنه تسريبات عن اتفاق أميركي- روسي حول ذلك، وربما يكون النظام نفسه مساهماً في تلك التسريبات ترويجاً لنفسه. ما يجدر ذكره في هذا المقام، أن تحديد مدة معينة لولاية الرئيس، هو أمر شكليّ، فالسلطة الأسدية قائمة أصلاً على فكرة “الأبدية في الحكم”، وهذا كان واحداً من الأسباب التي أدتّ إلى اندلاع ثورة الحرية والكرامة السورية.

“المتعاون” في تفكيك الترسانة السورية الكيميائية، هو الرئيس القاتل نفسه، الذي يفترض أن يكون الآن أمام قضاء الشعب السوري أو القضاء الدولي، ليُحاكَم كمجرم حرب ومرتكب جرائم ضد الإنسانية. إنه الرئيس اللاشرعي، اللامنتخَب، الذي ورث حكم “الجمهورية” عن أبيه الانقلابي، بعد تعديل الدستور المذكور لكي يتواءم مع سنّه ومصلحته الشخصية العليا. فكل قانون أو دستور لا يُوضَع في حضرة ديكتاتور، ولا يُفرَض تقديسه، إلا ليوائم مصلحته، وليكون عدو الشعب والحرية والتفوق الإنساني.

لكن أن يُقتل السوريون قتلاً “عادياً” بسلاح “عادي”، مثل المدافع والدبابات والطيران الحربي وصواريخ السكود وسكاكين الذبح…؛ وأن يُهجَّروا ويُشرَّدوا ويُعتقَلوا ويُغتصَبوا وتُحرَق مدنهم وقراهم وتُنهب ممتلكاتهم وتُسلب، فهذا أمر ينبغي “عدم التوافق” في شأنه، كونه موضع صراع ونزاع بين أعضاء مجلس الأمن، الذين يتقن كل عضو منهم دوره “المتفَّق” عليه. فهذا يشهر الفيتو في شأن إصدار أي قرار يدين الجرائم المرتكبة في سوريا، وذاك يرفضه، وتستمر اللعبة سنوات معمَّدة بالدماء والأشلاء، ويستمر سَحَرة العالم في اللعب الناجح، لا لأنهم أذكياء إلى هذا الحد، بل لأنهم يملكون أدوات القوة الباطشة!

القتل جوعاً، أيضاً، لا يشكّل خطورة على مصالح سحرة العالم وأمن دولهم القومي، فيُكتفى في مجلس أمنهم بإصدار بيان “غير ملزم”، يعرفون حق المعرفة أنه لن يُلتزَم به، كالذي صدر يوم 2 تشرين الأول 2013، والذي يطالب الحكومة السورية (العصابة)، بفتح ممرات آمنة لإدخال مساعدات إنسانية إلى المناطق التي تحاصرها منذ أكثر من سنة في دمشق وريفها أو في حمص! يبدو أن منسّقة الشؤون الإنسانية لدى الأمم المتحدة فاليري آموس، من اللواتي والذين يدركون جيداً قواعد اللعبة. ربما لذلك شدَّدت، بعد إصدار البيان المذكور على ضرورة “تفعيله”.

بين الإلزام وعدم الإلزام، بين التقديس واللاتقديس، يبرز بوضوح تام، حجم الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه هذا العالم، وتشوّه مفهومَي الإنسان والعدل فيه. العدل الذي يصبح معه المجرم (الأسد ونظامه) شريكاً في تنفيذ القرارات الدولية التي لا يفرض تقديسها إلا مَن يستفيد منها، من دون أن ينال العقاب كفعل مطلق من أفعال العدالة. المجرم الذي أثبت التقرير النهائي للمفتشين الدوليين في خصوص الأسلحة الكيميائية، بعدما أنهوا مهمتهم الأولى في سوريا، المقدَّم إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في تاريخ 16 أيلول 2013، المُسند بأدلة وبراهين وقرائن، أثبت إثباتاً علمياً لا يدع مجالاً للشك، ضلوعه في ضرب غوطتي دمشق يوم 21 آب 2013، بالكيميائي (غاز السارين). ليس غريباً ولا بعيداً عن التسييس إذاً، بعد كل ما حصل في سوريا ولا يزال، أن تحظى منظمة “حظر الأسلحة الكيميائية” بجائزة نوبل للسلام للعام 2013.

ما حدا بموت من الجوع؟!

لكن الطفلة رنا عبيد ماتت جوعاً يوم 23 أيلول 2013 في مدينة معضمية الشام بدمشق، شأنها شأن آخرين لقوا المصير ذاته في المستشفيات الميدانية بحسب مصادر طبية من داخل المدينة. تحدثت المصادر نفسها عن أطفال يعانون الوهن والهزال، وعن ناس يأكلون أوراق الشجر، وعن عمليات جراحية تُجرى بطرائق بدائية جداً بسبب انعدام اللوازم الطبية والأدوية نتيجة الحصار المفروض على المدينة منذ أشهر طويلة جداً، حيث يمنع نظام الممانعة دخول المواد الغذائية والدوائية وكل ما من شأنه استمرار الحياة. معضمية الشام شأنها في الحصار، شأن الغوطة الغربية كلها، مثل داريا، وشأن الغوطة الشرقية، وشأن الأحياء الجنوبية للعاصمة وبلداتها، مثل مخيم اليرموك، القدم، العسالي، الحجر الأسود، عقربا، السيدة زينب، البويضة، يلدا، ببيلا، بيت سحم، الذيابية، الحسينية، حجيرة البلد، وسبينة وغيرها.

يتحدث الناشطون في المناطق المحاصرة تلك، عن تفاصيل كثيرة موجعة، منها: قيام عناصر النظام بضرب النساء على الحواجز ونزع المواد الغذائية منهن وإلقائها على الأرض ودعس أرغفة الخبز بأرجلهم. يحصل أحياناً أن يُعتقل مَن يُكتشف في حوزته خبز أو يُعدم ميدانياً على الحاجز! لكن ما هو أشد توحشاً من ذلك، كان في اليوم الحادي عشر من الشهر الجاري، عندما اقتحمت الذيابية، ميليشيات “حزب الله” ولواء “أبو الفضل العباس” الطائفية الإرهابية، بمساعدة النظام الطائفي الإرهابي الذي استمر في القصف، وارتكبوا فيها مجزرة راح ضحيتها العشرات، قضوا إما رمياً بالرصاص وإما ذبحاً بالسكاكين، إضافة إلى اعتقال الكثيرين بينهم نساء وأطفال، وإحراق البيوت ونهب الممتلكات. حصل الاقتحام بعد أشهر طويلة جداً فتك خلالها الجوع بأهالي المنطقة المحاصرة. ثمة كلام صادم، تم تداوله لأحد الناجين من المجزرة، يقول: “كنّا ندوس على جثث أبنائنا وأقاربنا وجيراننا بينما كنا نحاول الهرب من الذيابية”. يُذكر أن الذيابية كانت من أولى المناطق التي انتفضت ضد النظام وشاركت في التظاهرات وحطمت صنم حافظ الأسد.

إذاً: “ما حدا بموت من الجوع”، مقولة تنتمي إلى المقولات التي طالما ظنناها لعبة لغة ليس إلا، أو دالاً لا يمكن أن يستحيل إلى مدلوله، بدَّدتها الحرب التي صهرت فيها العصابة الحاكمة اللغة الصلبة المتكتلة، في المعنى، فتلاشت العلاقة بين الدال والمدلول، وانصهر أحدهما في الآخر، ليظهر بوضوح أننا في عمق حرب منحلَّة في لغة، مثلما نحن أمام لغة منحلّة في حرب. إننا في مواجهة ذاك المصير اللغوي المحتوم!

في مقالة سابقة بعنوان “الحرب واللغة” (ملحق النهار الثقافي 2 شباط 2013)، تطرَّقتُ تحت عنوان فرعي في المقالة “الدال إذ ينصهر في مدلوله”، إلى مقولات تتقاطع مع مقولة “ما حدا بموت من الجوع” هنا، في كونها كانت لغة متكتلة في الذهن، وطويلاً ساد الاعتقاد بأنها مجرد “عُرف لغوي” فحسب، قبل أن تنصهر المقولات كدلالات لغوية في مدلولاتها، وتنتقل من المستوى النظري المحض، إلى المستوى الواقعي الصرف، مثل مقولة: “لقمة مغمَّسة بالدم” التي طالما اعتبرناها مجرد مبالغة لغوية تصف حال الشقاء وضيق العيش والإنهاك اليومي، قبل أن تستحيل واقعاً صرفاً في بستان القصر بحلب، وفي حلفايا بحماة، وفي تلبيسة بحمص، وفي الحجر الأسود بدمشق، وفي البصيرة بدير الزور، وفي الزبداني بريف دمشق وغيرها. ففي كل تلك المناطق، كان هناك فرن ارتسم أمامه طابور من أطفال ونساء وشباب ومسنّين تم قصفه. في غمرة انتظار الخبز، رمى الطاغية حقده قنابل وبراميل ومتفجرات، فتناثروا قطعاً وأشلاء، أما أرغفة الخبز، فقد “تغمَّست بالدم”. مَنْ مات من أولئك، مات، ولكن مَنْ ظلّ منهم حيّاً يتضوّر جوعاً، لم يعد أمامه ربما سوى التقاط رغيف الخبز المضمَّخ بدم من كان للتوّ حياً يحمل في يده أرغفته. كخيار أخير موجِع، قد يلتقط الحي رغيف الميت المغمّس بدمه، ويلتهمه إسكاتاً لصيحات المعدة الخاوية.

ردّ الفعل الحَرِج

ثمة ظاهرة يسمّيها علماء الأحياء ـ”ردّ الفعل الحرج”. تتلخّص في الخيار بين الفناء أو المجابهة. فقد يستسلم الكائن الحي ويرضخ، أو يهرب طالما برز لديه إمكان للنجاة، ولكن عندما ينعدم هذا الإمكان، يتحوّل الضعف إلى قوة يستجيب بردّ فعل حيوي يعبِّئ كل طاقاته ويكثّفها في دفاع مستميت عن وجوده. من المعروف في هذه الحالة أن فئة مستضعَفة قد تغلب فئة قوية متفوقة في العدد والعدة والعتاد.

استناداً إلى هذه الظاهرة، ربما يمكننا تفسير صمود الناس المحاصرين في المناطق المذكورة آنفاً، ورفضهم الانصياع والطاعة والركوع، على الرغم من هول المصير الذي يواجهونه. ألم يكن شعار “الموت ولا المذلة” أحد أهم مرتكزات الثورة نظرياً، فكيف لا يُطبَّق عملياً؟ في مخيم اليرموك بجنوب دمشق مثلاً، استجاب العديد من الناس إلى مبادرة أطلقها أحد شيوخ المساجد، صالح الخطيب، من شأنها إضراب الرجال عن الطعام من أجل إطعام الأطفال والنساء إلى حين فكّ الحصار. مبادرة جاءت، بحسب ناشطين ميدانيين، بمثابة ردّ على حملة رمى فيها النظام كميات هائلة من الأوراق، يهدّد المكتوب فيها، الناس في المناطق الثائرة المحاصرة، ويخيِّرهم بين الجوع والركوع. إعلان الإضراب عن الطعام غير الموجود أصلاً، كان بمثابة رسالة رمزية إعلامية، القصد منها التحدّي وفضح النظام، وفضح العالم أيضاً.

في “رد فعلهم الحرج”، اختار الذين قرروا الإضراب، المجابهة بدلاً من الفناء. تحوّل ضعفهم إلى قوة مكثفة للدفاع المستميت عن وجودهم. بذلك يكونون قد تفوقوا على مَن يفوقهم عدة وعتاداً. هم في إضرابهم عن الطعام غير المتوفر أصلاً، يعون أنفسهم بوصفهم ذواتاً حرة، تقاوم، تأبى الرضوخ، وصادقة مع نفسها، تضع قوانين لنفسها بنفسها من نفسها، وتلك هي الحرية الحقيقية التي يشعرون فيها بأنفسهم أنهم غايات لا وسائل، لا يمكن مساومتهم، يرفضون معاملتهم كأشياء، أو وسائل لغاية الكفّ عن الثورة، كما تريد السلطة التي تطالبهم بالركوع في مقابل رغيف الخبز. “السلطة الشيء” التي تنظر إلى نفسها من خلال الكرسي (الشيء)، فتعتقد أن محكوميها أشياء أيضاً.

 كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى