صفحات سورية

الدماء لم تجف بعد


ما تزال داريا تنظر بعيني الدهشة إلى ما جرى من حولها، فسكان المدينة حتى اللحظة الراهنة، لم يستوعبوا تفاصيل المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام السوري في المدينة، والتي تجاوز عدد ضحاياها الألف والمائتي شهيد. لم تصحو المدينة من هول الصدمة بعد والدماء كما حكايا الناس، لم تجف بعد.

عشرات التفاصيل والحكايا، بدأت تظهر اليوم، يرويها اشخاص عاشوا لسوء حظهم كل تفاصيل المجزرة وينطرون بعين الدهشة ويستاءلون: من أين أتي هؤلاء الجنود بكل هذا الحقد؟

عشرات الشهادات التي قدمت لنا، اكدت أن عدداً كبيراً ممن اعدموا ميدانياً على يد قوات الأمن، قطعت سبابتهم وذلك في اشارة لمنع الشهداء من النطق بالشهادة قبل أن يلفطوا أنفاسهم الأخيرة.

لم تكن مجزرة داريا، كما باقي المجازر الأخرى التي يرتكبها نظام الأسد، بدافع ديني او طائفي، كما قد يتوهم البعض. فذلك تحليل أقل ما يمكن ان يقال عنه انه سطحي فالقتل الممنهج الذي اعتمدته قوات الأسد ضد المدنيين، وعلى مرأى من ابنائهم وعوائلهم، يفسر رغبة النظام واصراره على تنفيذ شيئين اساسيين، اولهما تحقيق فك الارتباط بين عناصر الجيش الحر من الثوار، وحاضنتهم الاجتماعية وذلك عبر تطبيق العقوبة الجماعية على هذه الأخيرة، وثانيهما هو ترويع الأهالي في سبيل كسر ارادتهم وزعزعة صمودهم، وكل ذلك في محاولة النظام لاعادة احكام سيطرته على المجتمع السوري.

فأغلب الشهادات والتوثيقات تشير إلى ان جرائم القتل التي ترتكبها قوات الأسد، تجري بعد فرز الذكور عن الاناث، ومن ثم اقتياد الذكور على اختلاف أعمارهم وتجميعهم،/ ومن ثم البدء بعمليات التعذيب والتنكيل، وكل هذا يجري على مرأى من أهلهم وعوائلهم، وبعدها تحدث عمليات الإعدام، التي غالباً ما تتم في الشوارع وعلى الملأ.

تروي لنا احدى الأمهات التي ودعت ثلاثة من أولادها في المجزرة وتقول: اقتحمت عناصر الأمن منزلنا، وامرت الذكور بمختلف اعمارهم بالخروج من المنزل، بعدها دخلت قوات الجيش، وقامت بتفتيش المنزل، سرقوا كل ما وقعت عليه أيديهم بما فيه ثيابنا الخاصة، بينما كسروا وخربوا كل ما عجزوا عن حمله؛ خرجت بعدها الى الشارع مسرعة لأعرف ما حل بأبنائي، رأيتهم واقفين مع باقي أبناء الحي ووجوههم إلى الحائط، صرخت وبكيت، زجرني الجنود وامروني بالدخول الى القبو الذي كانت تتجمع فيه باقي نساء الحي مع اطفالهن، وعندما لم انصاع لأوامرهم، اطلق احد الجنود علي النار، لم يصبني ولكن أغمي علي، عندما استيقظت كان كل شيء قد انتهى، والدماء تلون الشارع، لقد اخذوا كل شيء حي في اعماقي، لقد اخذوا “ضي عيوني”.

لم يعد نظام الأسد يرتكب جرائمه بالسر، بات علنياً وواضحاً، وأكثر من ذلك راح يسهل وصول صور ومجازره إلى الأهالي في كل انحاء سوريا حتى ان وسائل اعلامه نفسها باتت مشاركة في نقل الجريمة، وكل ذلك في سبيل ارهاب السكان وكسر ثورتهم؛ وفي ظل الوضع الراهن بات الصراع واضحاً بدوره، بين نظام متمسك بالسلطة حتى آخر رمق، وبين شعب ثائر لم يعد يملك سوى خيار المضي قدماًَ بثورته، اذ لا سبيل حتى لمجرد التفكير بالتراجع أو الاستسلام. بينما تتمرأى الجريمة امام عالم متواطئ ومساند للطاغية.

هي معادلة باتت واضحة بالنسبة للشعب السوري الثائر، بات واضحاً وقوفه بمفرده امام واحدة من أشرس آلات القتل بالعالم. لقد عرت الثورة السورية نظام “الأسد الممانع”. كما كشفت زيف الخطاب العالمي حول الديموقراطية وحقوق الانسان.

وفي داريا التي نسعى الى رصد جرحها النازف، لا يسعنا سوى الشعور بالذهول، حيال موت معمم، وخيط حياة رفيع يتمسك به السكان بكل ما أوتوا من عزيمة، ففي هذه الأثناء التي نرصد فيها ما يجري في المدينة يفاجئنا فريق جريدة “عنب بلدي” الخاصة بداريا باصدارهم عدداً من جريدتهم، في اشارة الى استمرار الثوار في مزاولة نشاطهم، فالأهالي باتوا اكثر تماسكاً، واكثر تصميماً على الاستمرار والمضي قدماً، فاليوم لم يعد النظام الحاكم فقط من يرسل الرسائل، ايضاَ بات هناك طرف آخر في المعادلة، انه الشعب عندما تدب به الحياة ويقرر انه بات صانعاً لتاريخه ولا صانع سواه.

اليوم يودع اهالي داريا شهداؤهم، ويودعون معهم خوفهم، الذي سعى نظام الأسد عبر عقود حكمه إلى زرعه في قلوبهم، ينتصبون واقفين هناك ويعدون بالاستمرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى