صفحات الرأي

الدولة الدينية ومصادمة الوطنيات/ ماجد الشيخ

 

 

تصر قوى ما يسمى «الإسلام السياسي» على استملاك السلطة، بغض النظر عن الطريقة أو الأسلوب. وسلطة كهذه، سلطة انقلابية استملاكية، سلطة فرض وإكراه وغلبة، سلطة لا تمتلك أي مقوم من مقومات السلطة، أو الدولة؛ وكل ما تسعى إليه قبائل وفرق سلطة كهذه، لن يتعدى إقامة ممالك وإمارات جوفاء، تقوم على التصحير الشامل. وتلك مقومات «الدولة الدينية» على ما رأيناها تتجسد في دولة «الدواعش» الخليفية في عصرنا الراهن، وفي أيامنا هذه التي يراد لأوطاننا أن تتحول إلى مرابع للقتل ولتوهمات واستيهامات تملك الحواري، وقبلها سبي النساء، ومتع «نكاح الجهاد»، واستملاك الجواري، وما ملكت وتملك «أيمان الضواري الذكورية» من نساء المسلمين وغير المسلمين.

وما أقيم حتى الآن في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن، وفي كل مكان استباحته الميليشيات «الخليفية» أو «الفقهية» و «إمارات» زعران الزواريب، من قبيل ما يجري في مخيم عين الحلوة مثلاً، هبوط مريع في شكل ومضمون «الدولة الدينية»، التي يسعى البعض من خلالها إلى مصادمة الوطنيات؛ مجتمعاً مدنياً ودولة مدنية وقوى أهلية. وفي الحالة الفلسطينية، فإن مصادمة المشروع الوطني، ومحاولة الاستيلاء على قراره، وإقصاء قواه وفصائله على اختلافها، ضمن الصيغة الجبهوية الوحيدة القابلة للحياة والاستمرارية، على الرغم من الأخطاء والنواقص، هذه المصادمة والمصادرة هي في معنى من المعاني صب للماء في طواحين الأعداء، وتقويض لجبهة طالما قارعت العدو، وأبقت المشروع الوطني متحفزاً في مواجهة مشروع أو مشاريع الاحتلال، وكل الاصطفافات التي وقفت إلى جانبها، أو استبقت ذاتها في صفوف المتفرجين.

مثل هذه الاتجاهات والتوجهات العدمية لقوى «الإسلام السياسي»، ستبقى رهينة رؤاها القاصرة، وبصيرتها العمياء، ووهم كونها الأحق بتملك أو استملاك السلطة، وكل هذا من أجل إقامة بُنى وهياكل خاوية من أي معنى، أو أي قابلية للحياة، بُنى وهياكل تقوم على الوهم، يتآكلها التجويف من داخلها ومن خارجها، وهي في مثابة اعتداء سافر على المجتمع والناس والدولة، وتبديد لثروات تسرق، ويجري تقاسمها باسم الخير والزكوات، وتحويل جماهير المؤمنين إلى عصابات ميليشياوية تقودهم أيديولوجيا تطرف إرهابي نحو حتف محتوم من موت محقق؛ لا غاية بعده ترتجى.

هكذا تغرق قوى الإسلام السياسي ذاتها وجمهورها في «لا أدرية سياسية»، تنحط معها السياسة إلى درك أسفل من النار التي تشعلها، وتوزعها حطباً في كل الاتجاهات والمجتمعات والدول، على أمل أن تشعلها ثانية وثالثة ورابعة، وصولاً إلى تحقيق انقلابات وفوضى تدميرية، من قبيل ما نشهده اليوم من تخليق ثورات مضادة، واجهت وتواجه من خلالها ثورات الربيع العربي التي انكفأت وجرى النكوص عنها بفعل تدخلات وتداخلات «السلطة الرديفة» التي كانتها ويبدو أنها ستكونها على الدوام، سلطة قوى «الإسلام السياسي» التي لا ترى في السلطة سوى تحققات أو إمكانية تحقيق سلطتها هي، أما أي سلطة أخرى، فهي ممن لا يحق لها أن تقوم أو تقود مجتمعها وشعبها نحو قيامة الدولة المدنية الحديثة. وتلك لعمري مهمة عبثية وعدمية تأخذها قوى «الإسلام السياسي» على عاتقها، واقفة حجر عثرة أمام التقدم، عاملة بتوجهات انتحارية على احتجاز التطور، حفاظاً على الفوات والتخلف التاريخي الذي وسم بالانحطاط المريع اجتماعنا السياسي، منذ بدء تشكل المجتمعات العربية والإسلامية.

ولذا تشكل مصادمة الوطنيات والهويات التي اختارتها مجتمعاتنا المدنية عناوين لكفاحاتها ونضالاتها الوطنية والاجتماعية، والمحاولات الدؤوبة لمصادرتها، العنوان الأوضح للاصطفاف إلى جانب العدو أو الأعداء التقليديين، والعون الأفصح لهم في محاولاتهم الانتصار علينا في معاركنا النهضوية والتحررية معهم. أما ما يدعيه ويزعمه الإسلامويون من انحيازهم في معركة الهوية إلى ما يضاد هوية الأغلبية الشعبية والمجتمعية والدولانية لشعوبنا، فما هو في الواقع المر، إلا الحقيقة الساطعة لانتماء موهوم ومفترض، ذهبوا فيه حتى الأقاصي في قولبة هوية مفترضة، أرادوها أن تتعالى على الهويات الأخرى، وتعاديها عداءاً ومخاصمة تناحرية بالعنف وبالسلاح وبالإرهاب أحياناً ودائماً. فأي دولة يمكن أن يقيمها هؤلاء، وأي مشاريع نهضوية أو غير نهضوية يسعون إليها، وسط هذا التصحير والفراغ الرهيب، وانفتاح القبور وامتدادها وانفساحها على أكثر مما وسعت وتتسع لانشطارات الأجساد والأشلاء والجثث الممزقة؟ إنهم يمزقون مجتمعات ودولاً، ويفككون اجتماع ووطنيات شعوب وأمم، فأي أمل يرتجى من هكذا ملل ونحل؟

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى