الدولة السوريّة لا “النظام”/ ربيع بركات
حين قال وزير الخارجية الأميركية جون كيري إن التفاوض مع الرئيس السوري يُعدُّ من حاجات الحل الديبلوماسي للأزمة الدامية في بلاد الشام، احتفى النظام وأنصاره بـ «اعتراف» واشنطن بـ «تراجعها» عن سياساتها السابقة، القاضية بالإطاحة بسلطة دمشق الحاكمة. أما خصوم هذه السلطة، فشنوا هجوماً استدعى إصدارَ البيت الأبيض توضيحاً لكلام كيري، يفيد بالحاجة لـ «ممثلين» عن النظام وآخرين عن المعارضة على طاولة التفاوض على حلٍ للأزمة. وقد أشار البيان إلى أن المقصود في كلام كيري لم يكُن الأسد نفسه – وكأن أحداً كان يتوهم ألا ينوب في مهمة كتلك «ممثلون» عن الأطراف المعنية (أي السلطة والمعارضات)، أو أن القضية تتصل بأسماء المُفاوضين، لا بهياكل القوى التي يمثّلونها.
على أن بيت القصيد في سلوك واشنطن حيال الأزمة السورية لا يُستنتج من تصريحات كيري بل من كلام سابقٍ عليها، صدر قبل أيام عن مدير «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية جون برينان، وأعلن فيه أن بلاده «لا تريد انهيار الحكومة السورية والمؤسسات التابعة لها، لأن أمراً كهذا من شأنه إخلاء الساحة للجماعات المتطرفة».
لم يعُد يُنظر إلى «إسقاط النظام»، إذاً، كمسألة مفصولة عن «انهيار الدولة ومؤسساتها» ككلّ، والثانية قضية تفوق الأولى أهمّية، على صعيد الداخل السوري ومحيطه الإقليمي والساحة الدولية على السواء. وقد بدأ هذا التبدّل في رؤية واشنطن حيال ضرورة صيانة الدولة السورية (الضعيفة)، يتبلور ببطءٍ بُعيد إحجامها عن توجيه ضربة لدمشق على خلفية اتهام نظامها باستخدام أسلحة كيميائية قبل عام ونيّف.
وقضية فصل الدولة عن النظام في بلدٍ كسوريا، معقّدة أصلاً، نتيجة الارتباط العضوي بين النخبة الحاكمة و «الحزب القائد» من جهة، وبيروقراطية الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى. وما زاد هذا التعقيدَ جملة ٌ من العوامل. أولها يتّصل بانفتاح البلاد سياسياً واجتماعياً وجغرافياً على تجربة «اجتثاث» بعثٍ فاشلة في العراق، أنتجت حروباً أهلية ما زالت تتناسل منذ الاجتياح الأميركي لبغداد. وثانيها يرتبط بتجربة قريبة زمنياً، تمثلت بإسقاط النظام الليبي وإنتاج فوضى عارمة، في بلد عيبُه الأساس غياب المؤسسات أصلاً، ما يعني أنه يقدّم اليوم مثالاً نموذجياً على نتائج انهيار الدولة بالكامل، حين تتّصل الأخيرة جذرياً بهرمية النظام. وثالثها يتعلّق بغياب الفضاء السياسي السابق للحراك، والذي انتفت بغيابه القدرة على بلورة تصوّرات مبنيّة على خبرات سابقة.
بعد أربع سنوات على انطلاق الحراك السوري الذي شكّلت مطالب التغيير السياسي شعاراته الأولى، وتمرحُلِه من تظاهرات مطلبية إلى انتفاضة شعبية فـ «ثورة مسلّحة» ثم حرب أهليّة أتت على الأخضر واليابس، أصبح الحديث عن «إسقاط النظام» غطاءً يُبرر العمل على تفكيك الدولة وتسوية ما تبقّى منها بالأرض. بات الكلام عن «ثورة مسلّحة» للتغيير الديموقراطي، بعد أكثر من عامين على تغوّل التنظيمات المتطرفة وتحوّلها إلى الطرف الأكثر فاعلية على الأرض في مواجهة الجيش النظامي، ضرباً من الخبَل إن أحسن المرءُ الظنَ بقائله.
يعلم أي متابع مبتدئ أن أدوات «التغيير» لم تعُد صالحة لإنتاج ما يعوَّل عليه لدفع الأمور إلى أحسن، منذ أن أصبحت الدلائل الوافية تُفيد بذلك، بدءاً من الخطاب العام لقوى «التغيير» المسلّح الوازنة، مروراً بأدائها وسلوكيّاتها على الأرض، وصولاً إلى المصالح الحاكمة لقوى التدخّل الخارجي، الأقدر على توظيف النزاع أداتياً لامتلاكها عناصر القوة الصلبة من تمويل وتسليح.
كما يعرف أي راغبٍ جدّي بوقف نزف الدم في بلادٍ خسرت ربع مليون ضحية حتى الآن، أكثر من نصفهم، وفق إحصاءات «المرصد السوري لحقوق الإنسان» المعارض، من ضحايا «الثورة المسّلحة» وإفرازاتها (و «داعش» و «النصرة» من هذه الإفرازات)، لا بدّ أن يبدأ من قراءة الوقائع وينطلق مما تتيحه هذه الأخيرة من حلول (مع التسليم بأن «تغيير» النظام ضرورة).
والحلول المنطقية تقوم على إيجاد مخارج وابتداع صيغ، تأخذ في الاعتبار الحاجة إلى حفظ ما تبقى من الدولة ومؤسساتها من التآكل، لأن الرهان على هذا التآكل ـ بمعزل عن هوية جهاز الدولة الحاكم – يعني دوام الإرهاب، وتفاقم أزمة اللاجئين، وانفراطاً متمادياً في عقد الجماعات الأهلية، وتبلور هويات محلية رديفة، وتنامياً لظواهر الظلامية والتخلّف.
ثمة من لا يزال يراهن على إمكانية السير على حافة إنهاك الدولة السورية من دون الوصول بها إلى حدّ الانهيار التام. وهذه لعبة تبتعد عنها واشنطن لإدراكها أن «العوارض الجانبية» لها باتت تهدد الأمن والسلم على مستوى الإقليم والعالم، وأن ضبط هذه العوارض داخل الحدود السورية بات أمراً عسيراً.
على أن الطّامة الكبرى تتمثّل باستسهال بعض المعنيين بالحدث السوري الاستمرارَ بتسويق سرديّة «الثورة» حتى إسقاط الدولة ـ تحت شعار «إسقاط النظام»، خصوصاً إن كان هذا البعض يعتقد بإمكانية ضبط الأمور بعد ذلك، أو أنه غير مكترثٍ أصلاً لانفلاتها، ما دام قادراً على النأي بنفسه عن سعيرها. ولئن كان هذا البعض دولاً تعتقد بإمكانيةٍ مماثلة كتركيا مثلاً، فبعضه الآخر ناطقٌ شكلي باسم «الثورة» بشكلها الراهن.
في هذا الإطار، مثلاً، يأتي التنظير بأن «الحراك الثوري» سائر اليوم على صراط «إسقاط النظام»، وأن «الدولة» ومرافقها كيانات منفصلة عن الأحداث وتداعياتها، كما لو كانت الساعة قد توقفت في أشهر الحراك الأولى.
أما الحكم على ذلك فمتروكٌ لأي قارئ حصيف. علماً أن الحصافة غير ضرورية للحكم على مقولات عجيبةٍ، مفادُها أن النظام سقط فعلاً، وأن مرحلة «تحرير» مؤسسات الدولة قد بدأت! وأما أحدث المقولات تلك فوردت على لسان رئيس «الائتلاف الوطني السوري» خالد خوجة، الذي اعتبر في آخر تصريحاته أن «الثورة السورية دخلت مرحلة التحرير في عامها الخامس.. بعدما سقط النظام بتسليمه مرافق الدولة لإيران».
السفير