الدولة العميقة والثورة/ عمر قدور
كان انقلاب الكثيرين على النظام الذي احتضنهم مصدر حفاوة في بداية الثورة، ونال هؤلاء حظوة ومكانة تفوقان في أغلب الأحيان المكانة التي نالها الشباب الثائر ودفع ثمنها قتلاً واعتقالاً وتنكيلاً. بدت النقلة سهلة ومريحة، وغير مكلفة مع التبشير بسقوط النظام عاجلاً على نحو ما حصل في بلدان الربيع العربي الأخرى. ثم إن ترافق النقلة السياسية بنقلة مكانية يجعلها أكثر سهولة، فغالبية المنشقين غادرت البلد سريعاً بانتظار قيام الآخرين بمهمة إسقاط النظام. هذا لا يشمل النازحين اضطرارياً، أو الذين يقومون بنشاط حقيقي يدعم الداخل من أماكنهم الجديدة، بل يقتصر على أولئك الذين باتت الشكوك تراودهم حول انتصار الثورة، وعلى رغم أنهم لم يقدّموا لها من قبل شيئاً في أماكن وجودهم الجديدة بدؤوا مؤخراً بالانقضاض عليها، وبالعودة لخدمة أسيادهم القدامى.
المفتاح السحري الذي صار مشاعاً للنيل من تطلعات السوريين يتمثّل بدخول تنظيم القاعدة على خط المواجهات في سوريا، وهنا يحضر أحد أخطر الوسائل التي تمتلكها الدولة الأمنية العميقة، فلا يغيب عن أي متابع بسيط أن النظام لجأ منذ بداية أزمته إلى الإفراج عن الإسلاميين والجنائيين، مستثنياً معتقلي الثورة، ومن المرجح أن جميع المفرج عنهم قد توزعوا بين جهاديين وشبيحة. كما لا يغيب عن أي متابع بسيط أن مخابرات النظام كانت على صلة وثيقة بالإرهابيين الذين روّعوا المدنيين في العراق بعد دخول القوات الأمريكية؛ يروي الكاتب والناشط حازم نهار على مدونته الشخصية أن رئيس فرع التحقيق السياسي قال له عندما كان معتقلاً في أيار 2005: “نحنا خلقنا الزرقاوي، ومستعدون لخلق ألف زرقاوي”.
هكذا تبدو ذريعة القاعدة، من دون النظر في أصولها وارتباطاتها، كافية ليتنصل الأبناء القدامى للنظام من الثورة، وبحيث يخلطون الأوراق لتظهر الأخيرة كأنها تجسد الفكر المتطرف للقاعدة، في تناغم مع بعض الدوائر الغربية التي تستخدم الذريعة ذاتها لإطالة عمر النظام، وفي التقاط للإشارات التي بثها النظام ومن ثم الرد عليه بتقرب لم يعد مبهماً تماماً.
قد يكون من الخفة القول بوجود استراتيجية مشتركة بين القاعدة والنظام، لكن من الاستخفاف بالعقول نسيان الروابط المخابراتية بين الطرفين، وليس جديداً على أية حال أن تنقلب القاعدة على داعميها. ليس جديداً أيضاً الارتباط الجوهري بين التطرف الديني والاستبداد في بلادنا، فالتنظيمات الإسلامية المعروفة كانت أمْيَل إلى الاعتدال في العهود القصيرة للديمقراطية التي تلت عهد الانتداب، وثمة دراسات عميقة ورزينة تكشف عن الجذر المشترك للاستبداد والتطرف بأنواعهما لمن يتوخى الموضوعية.
إن أي فصل بين النظام والتطرف هو بمثابة خدمة كبرى تُقدّم للأول، لأن تصوير الخطر القادم على أنه خطر التطرف حصراً يتجاهل أصل الداء ويذهب إلى معالجة أعراضه. هذا الخلط بين النتيجة والأسباب ليس بريئاً اليوم، ولم يكن بريئاً في يوم من الأيام، لكن غايته الآن تبدو أكثر خبثاً لأنها تهدف إلى تجريد السوريين من ثورتهم وحقوقهم الأساسية. بالمثل؛ يخطئ من يعتقد أن المتطرفين يخوضون الحرب كرمى للثورة، وهم على كل حال أعلنوا عن أجنداتهم السياسية بانتظار أن تتكشف أجنداتهم الأمنية الخفية.
لقد أتاح طول أمد الثورة، وعدم تمكينها من الانتصار، للدولة العميقة أن تتحرك على عدة مستويات، وبخلاف دول الربيع العربي الأخرى كان متاحاً لها البدء بالمقاومة في أثناء الثورة لا بعدها. التنظيمات الإرهابية امتداد للدولة العميقة؛ الذين تربوا على كذبة محاربة النظام للتطرف ولم يخرجوا عنها هم جزء من الدولة العميقة، سواء بإدراك منهم أو دونه. سيكون من الخفة حقاً أن نختزل النظام ببضع مسؤولين مهما بلغ احتكارهم للسلطة، لأن خمسة عقود من الهيمنة المطلقة، بما فيها الهيمنة على الحياة الفكرية، لا بد أن تأتي بثمارها. واحد من هذه الثمار يتجلى في الأداء الركيك والمتعثر للمعارضة، لكن أخطرها يتجلى في ذلك الحنين إلى استرجاع أيام الثمانينيات عندما تم ترسيم الصراع على أنه بين سلطة علمانية حداثية ومعارضة أصولية متخلفة. يومها أيضاً توزعت النخبة الثقافية والسياسية على طرفي النزاع، ولم تبرز قوة حقيقية يُعتد بها على الضد منهما.
تحت يافطة الخطر الأصولي تستطيع الدولة العميقة استرجاع أبنائها الضالين، وتستطيع تشويه صورة الثورة والسوريين المطالبين بحريتهم، لكن من المشكوك فيه أن تنجح إلى النهاية ما دام ثمة احتمال في سقوطها مع احتياطييها، هنا قد لا يكون طول أمد الثورة شراً بالمطلق.