صفحات الرأي

الدولة المدنية .. من جدل النفي إلى جدل التكامل


نزيه كوثراني

يشير عبد الله العروي في كتابه مفهوم الحرية إلى أن العرب تعرفوا الليبرالية كشعار في وقت كانت تفرض نفسها كمنظومة فكرية متكاملة، الشيء الذي انعكس سلبيا على الفكر العربي في عصر لاحق : “العرب تعرفوا على ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة وروح الثورة الفرنسية وروح الردة على الثورة وروح النخبوية المعادية للديمقراطية والاشتراكية . إنهم واجهوا منظومة مليئة بالعناصر المتناقضة، وكان من الصعب عليهم أن يتلقوها بعقل ناقد كما نتلقاها نحن الآن بعد أن مر قرن على فحصها وتشريحها.”

و اليوم ترتفع النداءات من وسط الثورات الشعبية مطالبة بالدولة المدنية أو بالدولة الوطنية الحديثة، مع العلم بالنقاش السياسي الذي فجرته تحولات العولمة في المستويات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والإعلامية والاتصالية حول مآزق وتآكل الدولة الوطنية، مما طرح التفكير في الدولة مابعد الوطنية، لتجد الشعوب العربية نفسها أمام نفس القضايا والأسئلة التي لايزال يطرحها بإلحاح التأخر التاريخي فما أشبه البارحة/الليبرالية، باليوم /الدولة المدنية.

هل يمكن أن نفكر الدولة المدنية في غياب لغة ومفاهيم ونظرية الدولة؟ نطرح السؤال لنفهم تركيب النفي والإقصاء والتدمير الذي يتضمنه مفهوم الدولة المدنية الرائج حاليا في الثورات العربية، فهذا المفهوم لا يؤسس لجدل الإكراه والإجماع أو السيطرة والهيمنة بلغة غرامشي أو الجهاز الاجتماعي الأمني والشرعية السياسية الثقافية والأخلاقية القانونية حسب ماكس فيبر، أي إيديولوجية الدولة بتعبير عبد الله العروي أو دولة الحق والقانون الديمقراطية، حيث العلاقة تفاعلية تكاملية بين الدولة والمواطنين، أي بين الدولة وبعدها المدني، كمجال عمومي يضمن تحقيق التضامن بين الناس، والتأسيس القانوني كتنظيم ذاتي للرأي والإرادة السياسية الديمقراطية وفق ما يطرحه هابرماس . أما في الحالة العربية فالمدنية في المفهوم تستهدف الدولة، أي تسعى إلى زوال الدولة أو بتعبير أدق الحيلولة دون التفكير بالدولة وفي الدولة قصد البناء النظري والواقعي للدولة. وفي هذا النوع من التعاطي الفكري والسياسي مع مفهوم الدولة المدنية تتشابه القوى السياسية من اليمين – ضمنهم الإسلاميين – واليسار بمختلف مشاربهم الدينية والعلمانية. فالإسلاميون يحلمون من خلال المدنية بالخلافة، أي اللادولة وهي في الفكر السياسي الإسلامي القديم منه والأقدم – حيث لا يمكن أن نتحدث في الأصولية عن الفكر الحديث، لان ذلك مجرد بدعة في نظرهم أتت بها مدارك العقول في فساد زمان الأمة – فالخلافة معجزة إلهية تحتاج إلى الهام رباني، كخرق للمنطق الطبيعي لحركة التاريخ، وفي هذا السياق يمكن فهم خطاب الأمين العام لحزب النهضة التونسي حين قال “لحظة تاريخية ربانية” أو باستعماله تعبير “إشارة ربانية” فالرجل لا ينطق عن الهوى ولا يرتجل، بل هو قارئ إتباعي وفي ومخلص لكتب الفقهاء في حديثهم عن شروط الخلافة، كمعجزة والهام رباني، لذلك أسس الرجل نفسه في دلالات اللباس السميائي والنص الخطابي، ليؤسس لمعاني السطو على مجرى التاريخ الإنساني، كثورة شعبية تاريخية اجتماعية وجعلها ذروة عليا مقدسة، للانفراد بالحكم وتدمير الدولة بإعلان الخلافة السادسة.

 لذلك كانت الأصولية ولا تزال تنظر إلى الدولة كقهر واستبداد، فتختزل الدولة في جهازها السلطوي القمعي الذي لا يمكن إصلاحه إلا من خلال تدميره والقضاء عليه، وصولا إلى طوبى الخلافة، وبالتالي استحالة فهم منطق الدولة في بنيتها والية اشتغالها كسيرورة لتجربة إنسانية تاريخية اجتماعية وثقافية قانونية أخلاقية. وفي هذا الغياب للفهم تنعدم شروط التأسيس لنظرية الدولة المدنية الحديثة.

نستطيع القول إن الفكر العربي عبر تاريخه الطويل، وبمختلف مشاربه وخلفياته المعرفية والإيديولوجية، من الأصولي بشتى ووجوهه إلى الليبرالي واليساري بكل ألوان الطيف التي يتحصنون داخلها، لا يمكنه أن يدعي قدرته على الحديث عن الإصلاح السياسي والديني …لأنه فكر وثقافة تفتقر إلى مفهوم الجدل كآلية دينامكية، حية فكرية وتفكيرية، بين الواقع والقيمة وبين البنية والتاريخ وبين الاجتماع والسياسة …فهو أحادي الرؤية تماثلي نمطي لاشأن له بالاختلاف والتعدد والتناقض .

وإذا كنا قد اشرنا إلى موقف الأصوليين من الدولة، من خلال تمسكهم الضمني والصريح بالخلافة كتجاوز للدولة كإكراه قمعي غير شرعي دينيا، فالشيء نفسه تعنيه- الدولة- عند الليبراليين والقوميين وجميع اليساريين، حيث تختزل في جهاز الدولة في صورته الاجتماعية كجهاز قمعي سلطوي استغلالي طبقي …وان الأفق الوحيد الممكن هو الدولة العربية الموحدة أو الاشتراكية الشيوعية بمعنى السعي والعمل لتحقيق الهدف نفسه، أي اللادولة . فإذا كانت المدنية تحضر عند الأصوليين كخلافة خارج الدولة وضد منطق التاريخ في تحقيق ضروراته البشرية كاجتماع إنساني، قانوني، أخلاقي وسياسي، فإنها عند الآخرين بمن فيهم العلمانيين تحضر المدنية لنفي الدولة، بالنظر إليها كجهاز امني قهري وقمعي، دون التساؤل عن طبيعة تكون الدولة كتركيب جدلي يجمع بين طرفي الإكراه والتوافق العقلاني، ونقصد بهذا الأخير القبول النفسي الوجداني و القانوني الأخلاقي، كثقافة سياسية تعتمد المبدأ الخطابي التواصلي للبرهنة والإقناع، في التأسيس للمعيش والمصير المشترك، في صورة قوانين تنتج شرعيتها كمواطنة مسؤولة، في نوع من الاعتماد المتبادل بين الدولة والمجال المدني، أي المدنية التي تكون وتطور سيرورة الرأي والإرادة السياسية الديمقراطية . إننا في واقعنا إزاء نمط تفكير ينهض على نفس التربة الدينية الإيديولوجية التي تجهل الدولة اجتماعيا و قانونيا، سياسيا، أخلاقيا، لأنها تعاني نقص الأدوات المعرفية النظرية، والابستيمولوجية التي لا يمكن للأرضية الثقافية الدينية أن تنتجها، مما يعقد عسر فهمها للدولة الوطنية الحديثة. وقد انعكس هذا في الالتباس و العجز والصعوبة التي تحاصر الجميع النخبة والشعب، حيث الكل يماثل بين الدولة، السلطة، الحكومة، الجهاز العسكري والأمني، والبيروقراطية المدنية …وهذا الغموض والعجز والالتباس أنتج مواقف سلبية من الدولة، مما فوت فهم عمق الانتفاضات والثورات في الأمس واليوم. لذلك يصاب الجميع بالصدمة والذهول أمام سرعة سقوط الانظمة القهرية ذات الجهاز الأمني القمعي الحديث، فيجمعون في اعتقادهم وقولهم بان الدولة/السلطة شر لابد من الحذر منها ورفض التعامل معها، لأنها شبهة ينبغي الابتعاد عنها ما أمكن، كلما صعب محاربتها وتدميرها. وحصيلة تلك الثقافة متراكمة عبر العصور عند الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة، إلى جانب الكثير من تعبيرات الثقافة الشعبية التي تنصح العامة والنخبة، الأفراد والجماعات من خطورة الاقتراب من الدولة كسلطة القهر والقمع. وتلك هي الدولة منذ نهاية الخلافة في التفكير الديني، كدولة سلطنة استبدادية قديمة ومستحدثة اليوم، مما ولد مفارقة عجيبة حين نقارنها بفردانية الحرية في الغرب، حيث نجد عندنا فردانية الخوف والتوحد، كنجاة فردية بالنفس من شرور وقهر وتسلط الدولة، وذلك وفق ذكاء تدبير المتوحد- ابن باجة…- الذي يفتقر إلى أرضية اجتماعية، ثقافية، قانونية، سياسية و أخلاقية تؤسس شروط وجود ما يمكن تسميته بإيديولوجية الدولة، كتوسط اجتماعي قانوني ثقافي يربط بين الحياة المادية الإنتاجية وحق الممارسة السياسية. يتبين لنا أن ما نملكه من تراث الفكر السياسي الفقهي والفلسفي القديم، ولا في تيارات الفكر السياسي المؤسس للقوى السياسية الحديثة، لا يتوفر على الأدوات والمفاهيم النقدية القادرة على إنتاج معرفة حول مفهوم الدولة مدنية كانت أو وطنية حديثة … هذه مداخل مترابطة ومعقدة لفهم لماذا تحضر المدنية كصفة للدولة .

لذلك قمنا بنقد ما هو سائد لأنه لا يصلح للوصف والتحليل والتأسيس لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة، كما تريدها الحركة الشبابية اليوم، وهي ترفع شعارات ومطالب الحرية والكرامة والعدالة والمدنية، بعيدا عن القوالب الفكرية، والأحزاب السياسية الرسمية والمعارضة والإسلامية، فهي تطرح صيغة جديدة بنقد جذري لسؤال ما العمل الكلاسيكي؟ فالمجتمعات التي عاشت نوعا من الفقر والتصحر السياسي، بعيدا عن لغة ومفاهيم وقوانين ومؤسسات الدولة الحديثة، يكون من الصعب عليها تحقيق الانتقال دفعة واحدة من اللاسياسة إلى السياسة، فالأغلبية تعتقد أن المرور يكون مباشرا دون توسطات محددة . لذلك نرى أن طبيعة مجتمعاتنا المركبة والمعقدة، أي المتعددة المكونات والمتنوعة والمختلفة في لغتها ودينها وطوائفها ومذاهبها وتصوراتها السياسية، تحتاج إلى إستراتيجية المصير المشترك في نوع من التقارب الاجتماعي والثقافي، يعتمد آليات الحوار والتواصل العقلاني، كأسلوب لتأسيس مفهوم التوسط الأفقي بين المواطنين، من خلال حق الفرد كمواطن حر و مستقل في المشاركة الفاعلة، لتكوين وتطوير التشريعات القانونية للمجال السياسي القائم على المؤسسات السياسية والقانونية كتوسط عمودي لعلاقة المواطن بالدولة التي تعكس إرادة الجميع، كنظام ديمقراطي يحقق الاندماج المجتمعي الوطني والاستقرار السياسي. والأمل معقود على هذه الثقافة السياسية الجديدة التي تجلت في شعارات وممارسات الثورات الشبابية التي كانت القاعدة والأساس للنهوض الشعبي. فهذه الثقافة السياسية الجديدة لا علاقة لها بالمشهد السياسي السائد رسميا وفي أشكاله المعارضة، فقد تجاوزت كل هذا الانسداد في الأفق والعماء في الرؤية كإيديولوجيات اقصائية، عصبية وشوفينية. لذلك كانت مطالب الثورات تؤسس للرغبة في العيش المشترك والمصير المشترك، كمجال عمومي مدني يأخذ بعين الاعتبار قضايا الجميع، من خلال التشارك والمشاركة في التأسيس لفعل التوسط الاجتماعي القانوني،و من خلال أشكال من التقارب الثقافي الاجتماعي بين الجميع، أي تمتين جسور- التي خربها ودمرها المستبد الحاكم – التعدد والتنوع والاختلاف بين التركيبة السكانية لمجتمعاتنا، كإثراء للمواطنة التي تؤسس تشريعاتها القانونية بفعل حق المشاركة التي تعتمد آليات الحوار والتواصل والاعتراف المتبادل، كأسلوب للتنظيم الذاتي القانوني لتكوين رأي عام وإرادة سياسية تعيش صيرورتها السياسية، كتواصل سياسي من التواصل العقلاني إلى السلطة التوافقية، أي تحويل السلطة التواصلية إلى سلطة إدارية، كما يطرح هابرماس، في نوع من جدل التكامل بين الدولة وأساسها المدني المتمثل في المجال العمومي.

 فالثقافة السياسية للحركات الشبابية تطرح المدنية كرفض للدولة المطلقة التي تغيب المواطنين في وقت تزعم تحقيق حريتهم. لذلك تهدف تلك الثقافة إلى تصحيح العلاقة بين الدولة والمواطن، أي أن المدنية المطروحة في ثقافتها السياسية للتظاهر ولتقنيات التواصل كشبكة تريد أن تجد امتداداتها في مكونات المجتمع المدني، وتقدم مبدأها التواصلي كنموذج لتشكيل سلطة غير استبدادية إكراهية، أي سلطة رأي عام فاعل لمواطنين أحرار متساوين، يتوخون التأثير على الدولة. وبذلك يكون التوسط الاجتماعي القانوني الذي ينتجه التواصل الهادئ والعقلاني، كمصدر شعبي للتشريع وسن القوانين، في خدمة المصلحة العامة مما يعمق اللحمة الوطنية والنسيج المجتمعي الذي دمرته سلطة الاستبداد، وجعلته في صورة فسيفساء قبلية مذهبية عرقية طائفية …تخشى مؤامرات الخارج وهي مخربة الداخل.

وفي هذا الترابط والتواصل المجتمعي المدني الافتراضي والواقعي لدولة المواطنين، كما تراه طموحات وتطلعات القوى الشبابية، ينفتح الحلم أو السقف السياسي لإستراتيجية العيش والمصير المشترك، نحو تجاوز الشرعية الصورية القانونية- كما تصورها فيبر- ونظريات التعاقد الكلاسيكية، وبذلك يتحقق التطابق مع شعار الشعب يريد إسقاط النظام، أي كمصدر للتشريع والتأسيس للرأي والإرادة السياسية بعيدا عن السلطة الفوقية والمتعالية المقدسة التي تقصي الفرد والجماعة في تدبير عالم المعيش انطلاقا من مؤهلاتهما المعرفية وصقلا لثقافتهما القانونية بمعزل عن اكراهات الحزب/ الدولة أو سلطة/ الدولة وتجاوزا أيضا لجميع أشكال الوصاية السياسية المتمثلة في ما يسمى الطليعة الثورية أو الحاكمة باسم الله أو في صور المثقف التكنوقراط الخبير المحتكر للشأن العام .

فإستراتيجية المصير المشترك التي تنهض بناء على تدبير تواصلي عقلاني لواقع الحياة المركبة والمعقدة لمجتمعاتنا، هي التي يمكن أن تحقق اللحمة الوطنية والنسيج المجتمعي، وتسهل الانتقال من الثورة إلى السياسة في إطار الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، كتنظيم ذاتي للمجتمع أساسه الفاعلية والمشاركة في التشريع القانوني كتواصل سياسي يحدد الصيروة السياسية التي تجعل هدفها التركيز على الحرية و المواطنة والعدالة، بمعنى التحرر من سطوة التوسط الأحادي العمودي للدولة، ومن هيمنة الأخلاق على السياسة والمتحررة أيضا من هيمنة الاقتصاد والمال وجهاز الدولة القمعي في صالح فئة قليلة خاضعة لمنطق السوق وحده، المغيب للمواطنين ولأشكال التضامن الاجتماعي السياسي القانوني.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى