صفحات الرأي

الدولة غير النظام السياسي/ د. عبدالإله بلقزيز

 

 

نبّهنا كثيراً، في مناسبات مختلفة، على مخاطر المطابقة أو المماهاة بين الدولة والسلطة ونظام الحكم. حَمَلَنا على تكرار التنبيه معاينة القدر الكبير من الخلط في الأذهان بين مفاهيم لا تعني المعنى نفسه، في أصولها النظرية وفي نصاباتها الواقعية، ولا تجتمع اجتماع مرادفة إلاّ في وعي مفصول عن تلك الأصول. لن نضيف جديداً حين نقول إن ذلك الخلط قرينة على فقر حاد نعانيه في الثقافة السياسية، عموماً، وأصولها الفلسفية خصوصاً. ولكن الأهم من استنتاج واقعة الفقر المعرفي من ذلك الخلط (هو) التشديد على النتائج العملية المترتبة عليه؛ حين لا يتميّز رجل السياسة، أو الناشط في مجالها، الفارق بين الدولة والسلطة ونظام الحكم (أو النظام الحاكم) لا شك أن ذلك يؤديه إلى أخطاء فادحة وربما قاتلة أحياناً في العمل السياسي. لا نقول هذا من باب الافتراض، لدينا عليه من الواقع ألف دليل، يكفي منها أن بعض المعارضات السياسية العربية المعاصرة ساقها الجهل بذلك الفارق إلى تدمير أوطانها ودولها بأيديها وفي ظنها أنها تُنجز ثورة، أو تطيح نظام حكم! وثمة معارضات أخرى لم تبلغ هذا المبلغ من الإيذاء، لكن مواقفها الرفضوية من نظام الحكم في بلدها أخذها إلى التزام واقف سياسية ضد الدولة والمجتمع (في المسألة الوطنية مثلاً)، وفي ظنها أنها تناهض بذلك موقف النظام!

الدولة ليست السلطة أو نظام الحكم لتعاليها وحيادها أولاً، ثم لأن مجالها أوسع بما لا يقاس من مجال السلطة والنظام ثانياً؛ فالأخيران جزء منها أو نصاب فيها. يقتضينا ذلك أن نميّز بين المجالين راسمين حدودهما لتبديد التباس الصلة بينهما في الأذهان. والتمييز هذا يمكن من وجوه عدّة ومن مداخل منهجية مختلفة؛ من حيث مساحة التمثيل، ومن حيث الوظيفة الاجتماعية السياسية، ومن حيث الأدوات، كما من حيث درجة الاستقرار. ويمكن الاستعانة، في هذا المسعى، بالقانون وعلم السياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد؛ فهي جميعها توفر الأدوات الكفيلة بإنجاز مثل ذلك التمييز.

إن تناولنا المسألة من مدخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، سنتبيّن أن هذه الأجهزة مملوكة، قانوناً ودستوراً، للأمة وأن النخبة السياسية الحاكمة التي تكوّن القوة الرئيس للنظام السياسي وتمارس السلطة لا تفعل، أثناء تقلّدها السلطة، سوى التصرّف في تلك الملكية العامة لا حيازتها، سواء كان التصرّف مزاجياً وعبثياً ومنحرفاً، أو (كان) عاقلاً ومتوازناً ومنضبطاً لأحكام القانون. هذه الجزئية في التمييز بالغة الأهمية لإنهاء الاعتقاد أن أجهزة الدولة ومؤسساتها يمكن أن تتحول إلى أجهزة النظام الحاكم فيها. الشطط في استخدام السلطة وتسخير أجهزة الدولة لذلك ليس قرينة على تبدّد الفاصل بين الدولة والنظام؛ سلطة الدولة أوسع مداراً وأعلى شأواً من سلطة النظام الحاكم. قد يحاول الأخير ابتلاع سلطة الدولة واحتكارها، لكن ذلك لا يعدو أن يكون ظاهرة موقتة، منحرفة، سرعان ما تضمحل لتعود صلة المباينة والتمايز بينهما إلى وضعها الطبيعي.

إن تناولنا المسألة من زاوية حجم السلطة الممنوح للدولة، بمؤسساتها السيادية والسياسية كافة، والحجم الممنوح منها للنظام الحاكم، نتبيّن أن الأخير مقيّد السلطات من قِبَل أجهزة ومؤسسات عدة في الدولة؛ القضاء، مثلاً، لا يخضع لسلطة النظام، وهو إن أخضعه في مرحلة عُدّ ذلك منافياً لمنطق الدولة واستقلالية السلطات فيها، من دون أن يكون في ذلك حجة على ان سلطة النظام الحاكم هي عينها سلطة الدولة ماهية ووظيفة وحجماً. الجيش، ايضاً، لا يخضع لسلطة النظام السياسي الا في اللحظة التي يؤدي فيها ذلك النظام دوراً يخدم الدولة ككل: اثناء الحرب مثلاً، اما السياسات العسكرية العليا للدولة، وسياسات الامن القومي، فلا يتدخل فيها النظام الا عند الضرورة، وطبعاً بالتوافق مع مؤسسة الجيش. أما ان يكون الجيش والاستخبارات والامن تحت إمرة النظام السياسي، في الحالات التي يسعى فيها الاخير الى تسخيرها لمصلحته، فذلك مما يجافي منطق التمايز بين سلطات الدولة وهي عديدة وسلطة النخبة الحاكمة (وهي محدودة).

وان تناولناها من جهة ما تتمتع به مؤسسات الدولة من ديمومة او استقرار، وجدنا ان زمن سلطة النخبة الحاكمة دائماً زمن انتقالي، مؤقت، متغير، يتغير سلمياً من طريق الاقتراع والتداول عليها، وقد يتغير عنفاً بثورة اجتماعية او انقلاب عسكري. اما زمن الدولة فمستمر لا انقطاع فيه. يمكن التمثيل على ذلك الفارق بين الزمنين بالفارق بين سلطة البيروقراطية وهي الطبقة الادارية في الدولة وسلطة الحكومات، تتغير الحكومات، التي هي التجسيد المؤسسي لسلطة النظام الحاكم، ويتغير وزراؤها باستمرار، في الوقت الذي تبقى الطبقة الادارية عينها في مواقعها: تستقبل الوافد الجديد، وتودعه عند انتهاء الخدمة. والبيروقراطية غير قابلة للتسخير من طرف النظام، مثلها في ذلك مثل القضاء والجيش والامن والاستخبارات، الا متى توافقت سياساته مع اهداف الدولة. وكم من حكومة بررت اخفاقاتها بتكلس البيروقراطية وعدم تجاوبها مع مبادراتها في الاصلاح او التنمية، او بررته بموقف الجيش او القضاء منها ومن خياراتها السياسية…

من اي جهة تناولنا الموضوع، تبينا الفروق بين الدولة ونظام الحكم الذي يتصرف في مؤسساتها. فنختصر هذه الفروق في استنتاج عام تتميز فيه الفارق بين منطقيهما: منطق مؤسسات الدولة منطق مهني، محايد تجاه السياسة ومنازعاتها واهوائها، ومنطق مؤسسات السلطة الحاكمة سياسي، غرضه تحقيق برنامج اجتماعي محدد: يميني او يساري، ليبرالي او اشتراكي، ديني او مدني… الخ. هذه الخيارات في السياسة لا تقبل الانطباق على الدولة حيث لا وجود لدولة يمينية او يسارية، مؤمنة او ملحدة، ديكتاتورية او ديموقراطية، رجعية او ثورية… الخ، هذه صفات تنطبق على انظمة الحكم وعلى خياراتها البرنامجية. الدولة هي الوعاء الذي يحمل هذه الخيارات ويوفر لها فرص التحقق الناجح، في الوقت عينه الذي يوفر لمعارضيها الفرص لمدافعة مصالحها في وجه تلك الخيارات. الدولة دولة وكفى، تستوعِب ولا تستوعَب. وهي تشتغل مثل آلة لا تكون السلطة والنظام الحاكم فيها الا كقطعة غيار تستبدل عند انتهاء الصلاحية. الدولة الروسية حكمها، خلال قرن، القياصرة والشيوعيون والليبراليون المتوحشون، ذهبت الانظمة الثلاثة وبقيت الدولة القومية الروسية. وهكذا هي الدول في كل مكانها. نعم، قد تغير حدودها، فتكبر او تصغر، تصير دولة متعددة القوميات، او تبقى دولة قومية، او تنحدر الى ما تحت القومية، لكن سلطتها ووظائفها تظل هي هي اياً يكن النظام الحاكم فيها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى