الدويلة العلوية.. أية فرص؟
طريف الخياط
يتضاءل المتاح أمام الأسد في هذه المرحلة الحاسمة من عمر الثورة السورية، فقد أدرك أن حلفاءه باتوا يتحدثون عن نظامه بصيغة الماضي، ويبحثون في شكل المرحلة المقبلة، فهل للدويلة العلوية مستقبل محتمل بين ما يجري بحثه؟
لننطلق من فرضية أن الدويلة العلوية هي الخيار الأخير المفضل لدى الأسد، وأنه سيحظى بدعم إيراني ومباركة إسرائيلية وموافقة روسية وتقبل أميركي وغربي، وسيتم فرضها بقوة السلاح الذي تملكه ميليشيات الأسد العسكرية وشبه العسكرية، بما فيه السلاح الكيماوي، بالاعتماد على الكثافة العلوية في الساحل السوري، بعد تفريغه مع مدينة حمص مما تبقى من السكان السُنة، والاستفادة من الاستحواذ على الواجهة البحرية السورية، مما يجعلها دولة قابلة للحياة.
يبدو ذلك مجرد خيار، يتفاعل ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات، مرتبطة بمواقف القوى العظمى، والمحيط الإقليمي، والواقع على الأرض. وباستعراض مواقف الفاعلين، بدءا من الموقف الإيراني، فمن المؤكد أن الأخيرة ستجد في ذلك الطرح استمرارا لنفوذها في المنطقة، كما أن مصير نظام الأسد سيترتب عليه شكل نفوذ حليفها، حزب الله، سياسيا وعسكريا في لبنان، وقد يترتب عليه شكل عراق المستقبل، المعرّض بدوره لتقسيم محتمل، لن يضر كثيرا بالمصالح الإيرانية. وهي بذلك تزيح شبح الهزيمة السياسية والاستراتيجية عن نظامها، الذي دعم الأسد بالمال والسلاح والخبراء والمقاتلين، فتسبب ذلك إلى جانب العقوبات الدولية على خلفية برنامجها النووي، بأزمة اقتصادية خانقة دفعت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي المتظاهرين الإيرانيين لرفع شعار «اترك سوريا واهتم بنا»، وبالتالي فإن خلخلة النظام الإيراني، كلفة متوقعة لهزيمته في الملف السوري. وفي الوقت نفسه، لا تملك إيران كثيرا من الأوراق لفرض خيار الدويلة، فاللجوء إلى القوة من حيث التدخل العسكري المباشر والتهديد بحرب عالمية، كما صرح قائد أركان الجيش الإيراني الفيروز أبادي، معد للاستهلاك المحلي، تغطية على العجز عن الفعل، ومحاولة للالتفاف على المأزق الذي يعيشه نظام طهران، كما أن الانخراط في أي حرب، سيمنح إسرائيل فرصة سانحة لحسم الملف الإيراني النووي على طريقتها، وعليه لا تملك الجمهورية الإسلامية إلا استمرار دعمها بمختلف أشكاله، لنظام الأسد وميليشياته، وإحداث الفوضى بعد سقوطه، أما مبادرتها الأخيرة فلا تعدو كونها محاولة لإثبات وجود وتثبيت الحضور. ويبقى أمام طهران فرصة محدودة في المفاوضات الثنائية المباشرة المتوقعة مع الولايات المتحدة، كي تنقذ بعض ما يمكن إنقاذه، والرهان على ما سيؤول إليه الموقف الروسي.
لن تدخل طهران وحيدة في معركة خاسرة، وخصوصا أن الروس قد بدأوا فعلا بالتفاوض على مصير الأسد، وبدأ بوتين يرسل إشارات أكثر جدية بوجوب الاتفاق على حل، بما يضمن بعضا من مصالح بلاده. ويعزز ذلك السياق، اللقاءات الثنائية الروسية – الأميركية رفيعة المستوى في دبلن وجنيف، بحضور الوسيط الأممي العربي الأخضر الإبراهيمي. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة تتجه باستراتيجيتها الجديدة نحو شرق آسيا، فإن السفن الروسية المتوجهة إلى الساحل السوري تحت ذريعة الإجلاء، تبدو أقرب إلى رسالة سياسية أكثر منها أي شيء آخر. لكن بدء المفاوضات لا يعني بالضرورة أنها ستسير بسلاسة، والإبقاء على القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، ليس بالأمر اليسير، وربما يدفع بالروس إلى بحث إنشاء كيان ساحلي بصيغة من الصيغ.
وبالالتفات نحو الجنوب السوري باتجاه إسرائيل، فإن دولة ما انفكت تطالب العالم بالاعتراف بيهوديتها، ستجد في إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط على أسس عرقية ودينية، فرصة سانحة لمنح وجودها ومطالبها نوعا من الشرعية، لكن قيام دولة سُنية غير مستقرة، وفقيرة ومدمرة ومشلولة، قد يدفع نحو وجود مزيد من المجموعات السلفية الجهادية على حدودها الشمالية، وهو أمر قد يحيل التوقعات إلى مزيد من الانخراط الإسرائيلي في شأن جارتها، بحجة التخوف على أمنها، وذريعة الأسلحة الكيماوية السورية.
أما بالنسبة لتركيا، فإنها الدولة الأكثر تضررا من طرح تقسيمي، حيث إن مكوناتها الداخلية لا تختلف كثيرا عن المكونات الاجتماعية السورية، وخصوصا الكرد والعلويين والسُنة. وعدا عن أن المناطق الكردية في سوريا تستعيد دورها كقاعدة خلفية لحزب العمال الكردستاني، فإن المناطق العلوية التركية القريبة من سوريا، شهدت بعض التململ من سياسة الحكومة في ملف جارتها، وتستثمر المعارضة التركية بدورها، ذلك الملف وتداعياته الداخلية، لانتقاد أعدائها السياسيين. وبالتالي فإن مصير سوريا يشكل شأنا هاما للأمن القومي التركي والمستقبل السياسي للحزب الحاكم، ويجعل من تزامن نشر صواريخ باتريوت على الحدود بين البلدين مع توقيع اتفاقيات اقتصادية هامة بين تركيا وروسيا، يزيد من تعقيدات التكهن بمضمون المقترح التركي الذي وصفه بوتين بالمبتكر، إن كان يقتصر على مصير الأسد فقط أم أنه يتعدى ذلك.
يشكل الغرب بما فيه الولايات المتحدة ومظلة الناتو، العقدة التي تتجمع فيها خيوط المفاوضات السابقة، وقد يلجأ إلى تدخل عسكري تتزايد احتمالاته، تحت ذرائع متعددة، تشكل الأسلحة الكيماوية إحداها. وفي سياق آخر يجري الحديث عن قوات حفظ سلام دولية بمشاركة روسية، قد تتمخض بعد الاتفاق على الحل. إلا أن تواتر التأكيد على مصير الأقليات، واستثمار القلق عليهم واستثمار قلقهم، والسيناريوهات الكثيرة التي يجري طرحها على طاولة المقترحات، قد تذكر بالشكل البوسني، فربما يتفاوض الغرب مع الفاعلين الآخرين، على اتفاقية «دايتون» سورية، تعززها قوات عسكرية تحت مسميات شتى، مع العلم أن الاتفاقية المذكورة، قد حافظت على الحدود الخارجية للجمهورية اليوغوسلافية السابقة، لكنها قسمتها عمليا إلى جمهوريتين منفصلتين، تعيشان سلاما غير مستقر.
إن الخريطة الجيوسياسية السابقة لا تكتمل دون قراءة الداخل السوري، فمعركة دمشق قد بدأت، والأسد يخسر تباعا مواقع عسكرية واستراتيجية هامة، حول العاصمة كما بقية المدن الأخرى. يقترب الجيش الحر أكثر من الساحل، ويتموضع اليوم في مواقع ليست ببعيدة عن القرداحة، مسقط رأس الأسد ومعقله الأخير. يتغلغل التململ في أوساط العلويين ويتزايد، فقد أزهق الحل الأمني والعسكري الفاشل أرواح كثير من أبناء الطائفة، مما دفع إلى اضطرابات، لم تكن القرداحة استثناء لها بل بدأت فيها، وتمتنع مؤخرا – عن الالتحاق بجيش النظام – أعداد متعاظمة من الشباب العلوي.
يشكل التداخل الديموغرافي عاملا آخر لا يمكن إهماله، حيث يوجد السُنة في قرى مجاورة للعلويين، كما يوجدون بكثافة في مدن الساحل السوري. ومع شيوع احتمال أن الأسد سيقود معركته الأخيرة من الساحل، فإن نقله لبعض الرؤوس الكيماوية المحملة على صواريخ بالستية قادرة على تهديد المدن البعيدة كدمشق وحلب، أمر محتمل، وقد يساعد على فرض حالة الأمر الواقع. لكن، هل سيشعر الأسد بحد أدنى من الأمان لخوض معركته ضمن المعطيات السابقة؟ وقبل ذلك، هل الأسد من النوع الذي يقاتل حتى النهاية، أم أنه يفضل الهرب؟ وهل ستستمر ميليشياته بالقتال من بعده أم أنها ستتوقف؟ ومع احتمال أن ينهزم الأسد أو ميليشياته في تلك المعركة، هل سيسمح الفاعلون الإقليميون والدوليون بتلك الهزيمة التي تطيح بمشروع الدويلة؟ ثم ماذا عن الجهاديين المطالبين بدولة إسلامية أو دولة خلافة، وأية أجندات ينفذون بإعلاناتهم التي تعزز فرص التقسيم؟
أسئلة يترتب عليها مصير سوريا ومستقبل المنطقة، ومع غياب قطب مهيمن، فإن عدم التوافق على حل متكامل قابل للتنفيذ بين الفاعلين الداخليين والخارجيين، سيعني استمرار تغذية أطراف الصراع بالمال والسلاح والدعم الاستخباراتي، وبالتالي استمرار الحرب، واستمرار كل المخاوف، حتى بعد رحيل الأسد.
قد لا تفضي محصلة التفاعلات والواقع على الأرض إلى قيام دويلة علوية، أو حتى كيان علوي كمشروع تقسيم مؤجل، إلا أن المسألة السورية مفتوحة على اتجاهات كثيرة، لا يمكن تحييد أو تحديد أحدها، حتى ضمن نطاق يقين مائع. وختاما، بات من المؤكد أن الأسد لم يعد العثرة الوحيدة.
الشرق الأوسط