صفحات المستقبلمحمد دحنون

الدويلة تبدأ من شريط فيديو ؟

 

محمد دحنون

 في شهر نيسان من العام 2011، بعد حوالي شهر من اندلاع الثوّرة، وُلد السوري كمواطن. جاء ذلك في اللحظة التي أشهر فيها الشاب “أحمد البياسي” هويّته ليؤكّد أنّ الوقائع التي تضمنها شريط فيديو “مسرّب” يظهر فيه جنود وشبيحة يدوسون بأقدامهم رؤوس وأجساد مدنيين قد وقعت في قريته السوريّة البيضا جنوبي شرقي بانياس. ردّ البياسي على بعض أبواق النظام التي حاولت أن تشيع أنّ الحادثة لم تقع على الأراضي السوريّة وأنّ أولئك الجنود والشبيحة هم من مقاتلي”البشمركة”.

ولادة السوري المنتفض كمواطن، من خلال شريط الفيديو الخاص بأحمد البياسي، شكّلت الوجهة النقيضة لعملية تطييف المجتمع التي اشتغل عليها، وبنجاح، نظام “الأب المؤسّس” لعقود، ونقيضاً أيضاً للهدف الآني لنظام التوريث من وراء عملية تسريب الشريط: رسم خطوط فصل نهائيّة، في المدن والبلدات المنتفضة ذات التعدّد الطائفي، بين السوريين السنّة، المنتفضين منهم، والأقليات الدينيّة.

 خلال المرحلة نفسها؛ حينما كان يهتف المتظاهرون السوريون “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، درجت الماكينة الإعلاميّة للنظام السوري على اعتبار الحراك الشعبي الذي بدأ في درعا مقدّمة “مشروع لفتنة طائفيّة في سوريا”. وفي نفس السياق، عمل النظام على شدّ العصب الطائفي للأقليات الدينيّة حينما حاول إلباس التظاهرات الشعبيّة المندلعة في غير مدينة سوريّة لبوس “الحراك السني” الذي يستهدف الأقليّات. استغل النظام حادثة مقتل “نضال علي جنود”، بعد تعذيبه (أيار 2011)،  ثمّ مقتل العميد “عبده خضر التلاوي” مع ثلاثة من أقاربه لتشويه صورة الانتفاضة الشعبيّة، السلميّة آنذاك، والتي حرصت، من خلال فعالياتها وشعاراتها، على عدم توفير أيّة أسباب للنفور منها، إن لم تتوفر رغبة للمؤيدين والصامتين بالانضواء فيها والعمل على تحقيق أهدافها: حرية وكرامة السوريين!

 في المحصلة، يمكن القول، أنّ “سياسة” النظام السوري خلال المراحل الأولى من الثوّرة، إضافة إلى أسباب أخرى لا مجال هنا لذكرها، نجحت إلى حد بعيد في خلق حالة استعداء لدى قطاعات عريضة من الأقليات الدينيّة ضد ثوّرة مواطني بلدهم. وكان “الشريط المسرّب” أحدى أدوات تلك السياسة.

 منذ أكثر من شهر، سُرّب أكثر من مقطع فيديو “نوعي” لناحية درجة الوحشيّة والإجرام التي تضمنتها تلك المقاطع والتي حوت على مشاهد تعذيب لمعتقلين لدى ميليشات النظام، وتصفيّات جسديّة؛ تضمّنت المقاطع تلذّذاً بتعذيب أناس عزّل. تشطيب أجسادهم بالسكاكين ثم غرزها في الجسد. دهس الرؤوس بقطع حجارة. سحل. تجديف وانتهاك لما تعتبره الغالبيّة الساحقة من الشارع السوري المنتفض مقدسات.

 ثمّة ردّة فعل أوّليّة “مضمونة” حققتها عمليّة تسريب هذه المقاطع: ارتفاع حدّة الخطاب الطائفي في الشارع الثائر، والدعوات الحارّة للانتقام.

 تزامنت تلك التسريبات مع فقدان تدريجي لسيطرة النظام على العديد من المواقع العسكريّة في ريف دمشق وحلب. ميزان القوى العسكريّة كان يرجح، بصورة واضحة، لمصلحة الكتائب الشعبيّة المسلّحة. لنا أن نقدّر أن وضعاً كهذا، يترافق دون شك مع ازدياد في عدد التوابيت التي تصل إلى قرى الساحل السوري، سيرفع نسبة التذمّر في صفوف القاعدة الاجتماعيّة الأكثر التصاقاً بنظام الأسد، الأمر الذي قد يُعتبر مقدّمة لحصول اهتزاز وربما انشقاق عن النظام الذي بدا ويبدو أكثر فأكثر آيلاً للسقوط.

  لهذا السبب، كان على النظام الطائفي أن يعيد شد عصب تلك القاعدة، أحدى أدواته في تحقيق هذا الهدف هو :الفيديو المسّرب. أراد النظام أن يتوّجه لقاعدته الاجتماعية ولسان حاله يقول : وصلنا إلى نقطة اللاعودة، وليس بإمكانكم اليوم أن تتخلوا عني، وإن فعلتم فإن مصيراً أسود ينتظركم بما أقدمت عليه أيديكم. وليس هذا سوى المقدّمة اللازمة، لكن غير الكافيّة، لمشروع الدويلّة المحتملة. ما سيأتي بعد ذلك هو استثمار النظام في الخطاب الطائفي لدى شارع الثوّرة، الذي ينعكس بدرجة أو بأخرى على التهليل للكتائب المسلحة الأكثر طائفيّة وعدمية: جبهة النصرة مثلاً لا حصراً. “يحمل” النظام هذا “التهليل الإرهابي” ويدفعه في وجه الدول الكبرى: روسيا التي نصّبت نفسها حاميّة للأقليات، وأميركا أوباما المهجوسة بمحاربة الإرهاب. لن تُكتب الحياة لدويلة على الساحل السوري إلاّ من خلال “سايكس ـ بيكو” جديد ترعاه الدولتان الكبريان عبر قوّة عسكريّة دولية تفي بالغرض.

لن تستطيع الثوّرة، بقواها الذاتيّة، أن ترد على هذا الاحتمال. لكن، ربما، ستتكلف تركيا بأمر الرد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى