الديكتاتوريّة واحدة، دينيّة أو غير دينية
الاب جورج مسوح
صاعقٌ هو كتاب الروائي النمسوي ستيفان زفايغ (1881-1942) “عنف الديكتاتوريّة” (العنوان الأصلي للكتاب “كاستيليو ضدّ كالفن أو ضمير ضدّ العنف”، ترجمة ممتازة لفارس يواكيم، توزيع الفرات للنشر والتوزيع، 2013). صاعقٌ لأنّه نبويّ، فهو يتناول حوادث جرت في القرن السادس عشر، كأنّها تجري في عصرنا الراهن، بل في كل العصور منذ بدء التاريخ، مع تغيير الأسماء والانتماءات الدينية والوطنية.
وضع زفايغ كتابه عام 1936، بعد ثلاث سنوات من وصول النازّين إلى الحكم بانتخاب ديموقراطي، لكنهم سرعان ما حوّلوا حكمهم إلى ديكتاتورية مطلقة. ويقول المترجم إنّ الكاتب لجأ إلى وقائع تاريخية مشابهة جرت في جنيف قبل أربعة قرون للتنبيه إلى خطر الدولة النازيّة. فجان كالفن، الداعية البروتستانتي الشهير الذي لجأ إلى مدينة جنيف هرباً من محاكم التفتيش الكاثوليكيّة في فرنسا، ما لبث خلال فترة زمنيّة قصيرة أن صار حاكم جنيف الأوحد محوّلاً المجتمع الديموقراطيّ إلى ديكتاتوريّة قمعيّة لا رأي فيها سوى رأيه.
يتمحوّر الكتاب على ثلاث شخصيات رئيسية: جان كالفن، وميغيل سيرفيت، وسيباستيان كاستيليو. كالفن يأمر عبر مجلس مدينة جنيف الخاضع كلّياً له بإعدام سيرفيت حرقاً، والسبب، وفق كالفن، ليس سوى انحرافات عقائدية. ويتمّ تنفيذ مشيئة كالفن، ويُحرق سيرفيت علناً في إحدى ساحات جنيف. كاستيليو، المؤيد لكالفن، يثور ضدّ هذا العمل الشائن، ويدافع عن حرية الضمير، ويدعو إلى مقارعة الحجة بالحجة، وعدم اللجوء إلى العنف من أجل إثبات الحقائق الدينية. كاستيليو ينجو من مطاردة كالفن الذي كان ينوي محاكمته أيضاً، ويتوفّى بعد معاناة مع المرض.
كالفن ضحية الاضطهاد الديني يتحوّل إلى جلاد يمارس بدوره الاضطهاد الدينيّ. هو ليس حالة فريدة في التاريخ. كثيراً ما قرأنا وشاهدنا كيف تضحي الضحيّة جلاداً. إسرائيل مثالاً بشعاً عن تحوّل أبناء ضحايا المحرقة النازية إلى جلاّدين يعيثون فساداً في أرض فلسطين وشعبها. وذلك كلّه يتمّ باسم حق إلهيّ مزعوم، باسم إله رحيم أو محبّ للبشر!
ما نخشاه هو ظهور أكثر من كالفن واحد في بلادنا، يحتلّ عرش الله ويبدأ بإدانة الناس وتكفيرها وأبلستها لاستباحة دمها. منهم مَن كان مثل كالفن أيام كان يعاني الاضطهاد من ديكتاتورية محاكم التفتيش، لكنّه تحوّل مثله إلى جلاّد إرهابي لا يتوانى عن ارتكاب المجازر باسم الله. كالفن المعاصر قد يرتكب القمع والقتل باسم “العلمانية” أو باسم “الدين” أو باسم أي إيديولوجيا أخرى. الديكتاتورية واحدة تحت أي عنوان تلبّست وتسلّطت وطغت.
ثمّة دائماً “كاستيليو” يقف في وجه الديكتاتورية، هو ضمير الإنسانية المتجسّد في شخص أو أكثر. كاستيليو قال “لا” للطاغية في زمن رديء قال فيه الجميع “نعم”. “كاستيليو” الذي انتصر بالكلمة على السيف والنار، وإن بعد قرون مظلمة من المذابح والمجازر، هو الضمير الحيّ الباقي. كاستيليو المدافع عن حق الإنسان بالوجود وبالتعبير على رغم اعتناقه عقيدة يخالف فيها ذوي السلطان، سبق شرعة حقوق الإنسان العالمية بقرون. أما نحن فما زلنا في قروننا الوسطى ننتظر انبثاق فجر جديد تكون فيه الحقوق الإنسانيّة أهمّ من عقائدنا التي نرجئها إلى الله “الديّان” وحده. لكن كم كاستيليو يجب أن يُضحّى به قبل الوصول إلى تحقيق هذا الحلم؟