الديمقراطية أمام امتحانات جديدة/ كمال عبد اللطيف
يدعونا حدث استفتاء تقرير المصير في إقليم كردستان شمال العراق، وتدخل الحكومة المركزية في إسبانيا، لمنع استقلال هذا الإقليم عن إسبانيا، إلى مساءلة ظاهرة العودة الْمُسْتَجَدَّة إلى تفكيك الدول الوطنية في الشرق العربي وفي القارة الأوروبية. ولا شك أن تزامن هذين الحدثين، يشير إلى ظاهرة لا يمكن اعتبارها خاصة بمجال جغرافي واجتماعي دون آخر، أو أنظمة سياسية وثقافية دون غيرها، فالاختلافات القائمة بين الأوضاع العامة في المشرق العربي، والتي تَمَّ في إطارها الاستفتاء الكردي، تختلف عن الشروط والأوضاع المتعلقة بِسَعْيِ إقليم كتالونيا إلى الاستقلال عن الدولة الإسبانية بعد خمسة قرون من الوحدة، بكل ما يرتبط بهذا الخيار السياسي، من نتائج تتعلق بوضعية الإقليم العازم على الاستقلال، ووضعية إسبانيا بعد ذلك، سواء مع أقاليمها الأخرى أو داخل الاتحاد الأوروبي.
يُواجِه الْمُتَابِع المهتم بأشكال تفكُّك الدول والأنظمة السياسية في الحدثين معاً، عَيِّنَة جديدة من ظواهر الانفصال، تضاف إلى ما يُشْبِهُهَا في مناطق أخرى من العالم، سواء المُعْلَنَة منها أو المُبَرْمَجَة ضمن أفق زمني وسياسي محدَّدين، أو المسكوت عنها، حيث تنتظر كثير من الجهات في العالم أجْمَع، الفرصة المواتية للإعلان عن مشروعها في الانفصال والاستقلال. ويترتَّب عن ذلك، أن العالم يواجه اليوم، ظاهرة تشير إلى انتعاش نوع من الحنين الجارِف إلى الهُوِيات الإثنية والطائفية.
يحق لنا أن نتساءل ونحن نُعَايِن مثل هذه الظواهر، مَنْ أَحْيَا هذا الحنين إلى دولة الأعراق وأشجار النسب المتخيلة والمأمولة، في زمن الديمقراطية والعولمة، وهو الزمن الذي يستوعب أكثر من غيره، إمكانية بِنَاءَ وتطوير التوافقات السياسية والتاريخية، في المجتمعات الصغيرة والتكتُّلات الجغرافية الكبرى؟
تغلب على التحليلات التي تُوَاصِل مواكبتها للحدثين المذكورين في غليانهما المتواصِل، آليات في المقاربة لا تساعد كثيراً في فهم المواقف والرسائل التي تضمنها كل منهما، حيث تكتفي التعليقات بالتوقُّف أمام جملة من المعطيات القانونية والتاريخية، أو تتجه لاتخاذ مواقف سياسية مباشرة، الأمر الذي يجعلنا أمام تحليلات تُذَكِّرُنا بجوانب من مسارات النزعات الانفصالية، مع ميل إما لتأييد ما حصل، بناء على مقتضيات الحق في تقرير المصير، أو الانحياز لشرعية الدولة الوطنية، حيث تتخندق كثير من الآراء في الحالة الإسبانية، مع الدولة الرافضة لمبدأ انفصال إقليم كتالونيا عنها. ونحن نتصوَّر أن هذه المواقف وإن كانت تقربنا ممَّا يجري، فإنها لا تضع اليد على الْمِوَجِّهات الكبرى، التي تقف خلف انتعاش مثل هذه الظواهر.
إن الاكتفاء بتحليل جوانب من الطابع القانوني المرتبط بالدستور الإسباني، في حالة إقليم كتالونيا، والتوقف أمام عناصر من تاريخ تشكل وتطور المسألة الكردية، في علاقاتها المتشابكة مع الدول والمجتمعات التي تستوعب مجموعات كردية.. وإن كان يساهم في تركيب إضاءات مفيدة في الحالتين معاً، فإنه لا يكفي في نظرنا للإحاطة بمختلف التحوُّلات الناتجة عن الاستقلال الذي تتطلع إليه الأقاليم المذكورة.
لابد من الإقرار هنا، أن الانفصال في الحالتين معاً، يعكس قضايا سياسية وثقافية مركبة، ويعبر في الآن نفسه، عن تصارُع شرعيات حصلت في التاريخ، ورتَّبت مسألة تبلورها وتطورها في سياق توافقات سياسية وقواعد قانونية محدَّدَة. ولا شك في أن بروزها اليوم، في زمن يعرف الجميع أنه زمن التكتُّلات الوحدوية، المبنية على مصالح مُحَدَّدة يزيد الأمور تعقيداً. فكيف تقبل نخب سياسية واجتماعية واقتصادية، داخل إقليم ينتمي إلى فضاء سياسي أكبر، أن تؤسِّس دولة بالاعتماد على تفكيك دولة قائمة، دولة ترتبط بتاريخ من الاندماج الصانع لمقوِّمات الدولة الوطنية؟ وكيف تسمح لنفسها بتجاوُز مختلف المزايا التي رَكَّبت هذه الدولة في محيطها الجغرافي؟
إذا كان من المؤكد أن ما حدث في الإقليمين المذكورين، يرتبط بمسارات وإشكالات سياسية وتاريخية مُعَقَّدَة، فإن ما جرى في العراق يرتبط بالتحولات العنيفة التي واكبت عملية احتلاله من طرف الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2003، ودون إغفال الجوانب المتصلة بتاريخ التطلعات الوحدوية المتعلقة بالمشروع القومي العربي في علاقاته مع المكوِّنات القومية الأخرى، المرتبطة بتشكُّل بنية الساكنة في المجتمعات العربية، والظواهر التي تحيل اليوم إلى نوعية التغلغل الإيراني في العراق وفي العالم العربي، وكذا مختلف النزعات الإثنية، وظواهر التطرف والتهجير والاستبداد، وقد أصبحت مظهراً من مظاهر تحوُّله وانقسامه. كما يرتبط في الحالة الإسبانية بتاريخ وحدة إسبانيا المجتمع المتعدد داخل شبه جزيرة إيبيريا، وتاريخ إسبانيا القاعدة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، الْمُشْرَعَة على القارة الإفريقية..
يضاف إلى المعطيات التي ذكرنا، سلسلة أخرى من القضايا المرتبطة بموضوع العناية المستجدة بِالهُوِيات والأعراق واللغات والثقافات المحلية، وإعادة تشكيل خرائط الجغرافية السياسية في ضوئها، الأمر الذي يكشف عن مواقف واضحة من القِيم الديمقراطية، وما بُنِيَ في ضوئها من معطيات تَتَنَافَى مع قِيَم ما قبل التحديث السياسي والثقافي، التي انخرطت فيها أغلب المجتمعات منذ عقود من الزمن. كما تستوعب موقفاً من القِيم الجديدة، التي وَلَّدَتْهَا العولمة والاقتصاد المعولم، في عالم تحكمه اليوم ثورات في المعرفة التواصل..
إن بروز المكبوت الإثني في مجتمعات العولمة هنا وهناك، مع الاختلافات القائمة بين المتشابه من الحالات والظواهر، يدفعنا إلى مزيد من التسلح بمبادئ الحداثة وقيم الديمقراطية، وذلك من أجل تطويرها وتفعيل أدوارها في مجتمعاتنا، وإن اقتضى الأمر إعادة تركيب مبادئها في ضوء مستجدات التاريخ. نحن نسلم هنا بأن مشروع التحديث السياسي يهم المجتمعات العربية كما يهم أوروبا وباقي دول العالم. إن قوة التحديث تتمثل في كونه يظل دائماً في صيغة مشروع منفتح على أسئلة الحاضر والمستقبل، إنه مشروع يتميز بقدرته على مراجعة مبادئه وقيمه في ضوء مستجدات التاريخ وأسئلته.
نحن نتصوَّر أن العودات الحاصلة إلى ما قبل دولة التعاقد والاختيار السياسي الحر، تلزمنا بالانخراط مجدداً ودون تردُّد، في بناء نقاشات عقلانية وتاريخية، في موضوع تطوير الديمقراطية وآلياتها في مجال صراع الشرعيات، وكذا في قضايا التعدُّد الثقافي والإثني في المجتمع الواحد، لكي لا تنفرط عقود التاريخ، ويسيطر مجدداً منطق العصبية الإثنية على فضائل ومكاسب التساكُن والتضامُن والحوار..