الديمقراطية: حكم الأغلبية أم حماية الأقلية؟/ موريس عايق
هناك لبس عادة ما يحكم أي نقاشٍ حول الديمقراطية، وتحديداً سجالات الإسلاميين وخصومهم، وقد شكلت التجربة المصرية حتى انقلاب عبد الفتاح السيسي نموذجاً جيداً لهذا الإشكال. تستند فكرة الديمقراطية، في النقاشات المعاصرة، إلى تقليدين متباينين. يحيل الأول إلى المعنى المباشر للكلمة “حكم الشعب”. الديمقراطية هي حكم الأغلبية، صاحبة السيادة التي تختار الحكومة المخولة بتنفيذ القوانين الصادرة عن ممثلي الأغلبية. يتضمن هذا التصور للديمقراطية إمكانية استبداد الأغلبية على الأقل.
في مسرحيته “عدو الشعب”، يعرض هنريك إيسن هذه الإمكانية، حيث تقمع الأغلبية شخصاً يهدد مصالحها، وتمنعه من حقه بالتعبير عن رأيه، وهذا تم بشكل ديمقراطي، أي بقرار الأغلبية، على الرغم من أن الحق إلى جانبه في الخلاف الذي تعرضه المسرحية. تتضمن الديمقراطية، بوصفها حكم الأغلبية، إمكانية قمع الأقلية وحرمانها من “حقوقها”، والتي لا تعود أساساً حقوقاً، حيث إن الحقوق تُقرها الأغلبية.
الديمقراطية كحكم الأغلبية هي الفكرة التي استبطنها الإخوان المسلمون المصريون، في صراعهم مع بقية التيارات السياسية، فلدى كل خلافٍ، كانت تُرفع الدعوة إلى تحكيم الأغلبية. غير أن هذه الديمقراطية نفسها كانت مصدر الخوف لغير الإسلاميين الذين شعروا بتهديدٍ مع غياب أي ضمانٍ، يحدد ويحمي حقوقاً أساسية، لا يمكن طرحها على التصويت وقرار الأغلبية.
تبقى رغبة الإسلاميين في الاحتكام إلى قرار الأغلبية مُلتبسة، فالاستناد إلى حكم الأغلبية يعني أنه لا قيد على ما تقرّره الأغلبية، غير أن هذا ليس تصور الإسلاميين الذين يسلمون بوجود قيدٍ لا يمكن للأغلبية أن تتخطاه، والمتمثل بالإرادة الإلهية. ماذا سيكون رد فعلهم، إذا تعارضت الإرادة الإلهية وإرادة الأغلبية؟ تبدو هذه الإمكانية، في سياقنا الحالي، غير قابلة للتحقق، حيث الأغلبية “المسلمة” متناغمةٌ مع شرع الله، لكنها إمكانية نظرية، وكانت واقعية تماماً قبل عقود قليلة. يظهر نقاش هذه الإمكانية حدود التزام الإسلاميين بالديمقراطية، كحكم الأغلبية وطبيعته، (هل هو التزام مبدئي أو يخدم مصلحة سياسية عابرة؟) من جهة، وحدود القبول العام بالأفق الذي تفتحه هذه الديمقراطية، في حال تعارضها مع المبادئ الأكثر أساسية (الإرادة الإلهية في حالة الإسلاميين مثلاً) من جهة أخرى. هذه هي النقطة التي يؤسّس عليها الإسلاميون الراديكاليون رفضهم التام الديمقراطية، باعتبارها تضع الشعب شريكاً ومعارضاً ممكناً لله في التشريع.
لم يؤسس الإخوان المسلمون المصريون طغيان أغلبيةٍ، وهم الذين تم إسقاطهم بانقلاب عسكري
“الوضوح والثقة شرطا التوافق بصدد الديمقراطية” كان ضد الديمقراطية، أياً كان شكلها، غير أن التخوف الذي ساور كثيرين في مواجهة تجربة الإسلاميين المصريين كان مشروعاً، وهو الخوف من الديمقراطية، بوصفها طغيان الأغلبية. خوف لم يفعل الإسلاميون المصريون إلا تعزيزه والاستهتار به وتجاهله، ورفع شعار الديمقراطية، والاحتكام للأغلبية، في كل نزاع، فيما النزاع هو على تصوّر الديمقراطية، بوصفها حكم الأغلبية.
لكيلا نظلم الإسلاميين، فإن هذا التصور للديمقراطية لا يقتصر عليهم، وهو لا يعود إليهم أساساً. تبنى ثوريون، من مذاهب شتى، الديمقراطية الراديكالية، باعتبارها مثالاً يُحتذى، والشكل السياسي الأمثل للحكم. في مواجهة خطر طغيان الأغلبية، قدّم الثوريون حجةً من طبيعة ميتافيزيقية، هي الادعاء أن الإنسان الحر تماماً في مثل هذا المجتمع الديمقراطي لن يكون في حاجة للقمع، فالقمع حاجة في مجتمع غير ديمقراطي، ومع تحقق الديمقراطية ستنتفي الحاجة له. أي في المجتمع الديمقراطي حقاً، لن تكون الأغلبية بحاجة لقمع الأقلية، لانتفاء الحاجة لمثل هذا القمع، عبر انتفاء الدولة مثلاً. هذا تصور يوتوبي، ولا يمكن لنا الحكم عليه، وعلى الرغم من التجارب التاريخية التي لا تسنده بالمرة، فإن الديمقراطي الراديكالي يستطيع الادعاء أن هذه التجارب لا تحيل إلى مجتمعاتٍ ديمقراطيةٍ خالية من الاغتراب والقسر. يبقى هذا التصور خارج النقاش، لأن تحقيقه يفترض غياب الدولة، فيما النقاش هو حول دمقرطة الدولة. ولكن، علينا أن نبقى حذرين تجاهه، ففي النهاية، كان هذا التصور الأصل في المخيلة الثورية لأشد النظم طغياناً.
في مقابل تصور الديمقراطية حكم الأغلبية، هناك تقليد آخر، وله الهيمنة على تصور الديمقراطية في عالمنا المعاصر. يربط هذا التقليد بين الديمقراطية وحماية الأقليات وحقوق الإنسان. حكم الأغلبية هنا مقيّد، منذ البداية، بحقوقٍ أصليةٍ لا يمكن الانتقاص منها، أو طرحها قرار الأغلبية. على سبيل المثال، تحيل مقدمة الدستور الألماني إلى حقوق أساسية، لا تخضع لسلطان الأغلبية، بل هي التي تضع له حدّاً لا يتعداه. هذا التقليد نفسه حضر في السياق المصري في السجال الذي دار حول “مبادئ فوق دستورية”، تضبط الصراع الديمقراطي، وتضع حدوداً لما يمكن إخضاعه لقرار الأغلبية، وما لا يمكن إخضاعه.
مشكلة هذا التصور للديمقراطية أنه ليس ديمقراطياً، ليس بمعنى تعارضه معها، إنما باعتباره
“الديمقراطية كحكم الأغلبية هي الفكرة التي استبطنها الإخوان المسلمون المصريون، في صراعهم مع بقية التيارات السياسية” يقدم إضافةً فكريةً زائدةً، لا تقتضيها الديمقراطية، وهي الليبرالية ممثلة بحقوق الإنسان، يتم باسمها تقييد سيادة الأغلبية وتحديدها. إن هذا التقليد يجد نفسه في أفضل أوضاعه عند التفكير ضد الدولة وبمواجهتها، في تحديد صلاحيتها وقدرتها على التدخل وضبطها. يربط هذا التقليد بين فكرتين، لا يوجد ما يقتضي ضرورة الربط بينهما، أي حكم الأغلبية وحقوق الإنسان الفرد (الديمقراطية والليبرالية)، ويمكن للفكرتين أن تتواجها وتتصارعا، عندما يكون هناك تناقض بين إرادة الأغلبية والتصور المفترض لحقوق الإنسان الأساسية (مثلاً حقوق الإنسان في مواجهة الأمن القومي). هذا التناقض هو أصل النقد الذي وجهه كارل شميت للديمقراطية البرلمانية، التناقض بين الديمقراطية كحكم الأغلبية والليبرالية، كيف يمكن لنا أن نلائم بين إرادة الأغلبية وحقوق الإنسان، إن تعارضتا؟
افترض شميت أن هذا التعارض أصلي لا يمكن تفاديه، لكن تجربة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية أظهرت غير ذلك، وأن هذا التعارض ليس ضرورياً، ولكن أيضاً ليس توافقاً ضرورياً. يبدو السياق العربي الراهن أقرب إلى تصور شميت، أي للتعارض بين إرادة الأغلبية (تحيل إلى منظومة القيم والتصورات التي تحملها الأغلبية عن العالم) والحقوق الأساسية للإنسان كما نفهمها. تبدو الأغلبية في مجتمعاتنا مهيأةً لأن تُخضع كل شيء لقرارها، بما فيه مجال الحياة الخاصة والأفراد الذين يشعرون بتهديد لنمط حياتهم الخاصة من الأغلبية.
لا يمكن للسجال السياسي حول الديمقراطية أن يكون مفيداً من دون أن نكون واضحين لجهة ما الذي نعنيه تماماً، عندما نتحدّث عنها، وهو ما يسمح بمناقشةٍ جديةٍ للمخاوف التي يمكن أن تثيرها لدى الذين يمكن أن يكونوا خاسرين جرّاءها، خصوصاً أنها خسارةٌ تبدو غير مقتصرة على مجرد خسارة انتخابية، بل ربما تمتد لتمس طبيعة حياتهم نفسها. وفي حال انطلقنا من تصوّر محدّد للديمقراطية، هل سنقبله حتى النهاية، أم هناك قيود تضبطه، لا يمكن له أن يتجاوزها، وما هي طبيعة هذه القيود؟
الوضوح والثقة هما شرطا التوافق بصدد الديمقراطية، والتي من دون اتفاق مبدئي عام حولها تبقى مرشحةً لأن تكون مجرد أداةٍ سياسيةٍ، يمكن استخدامها انتهازياً ضد الخصوم، ما يترك باب الانقلاب عليها مفتوحاً دوماً.
العربي الجديد