الديمقراطية والإسلام التركي: مَنْ يجفف البحيرة؟
صبحي حديدي
في عام 1950 قام مؤرّخ بريطاني شابّ، في الرابعة والثلاثين من عمره، بزيارة تركيا للمرّة الأولى في حياته، بعد أن حصل على إذن بالدخول إلى الأرشيف العثماني الإمبريالي؛ وكان، بذلك، أوّل غربي ينال تلك الحظوة الاستثنائية التي جعلته “مثل طفل طليق السراح في مخزن ألعاب، أو في مغارة علي بابا”، كما كتب مزهواً.
ذلك المؤرّخ كان برنارد لويس، الذي سيصبح فيما بعد مرجع الحكمة الأوّل في كلّ ما يخصّ شؤون الإسلام السياسي، وستتراوح ألقابه بين “بطريرك الاستشراق” كما يصفه نقّاد مناهجه، و”عميد دراسات الشرق الأوسط” كما تمتدحه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية. ولسوف يتغنّى بإنجازات مصطفى كمال أتاتورك، في تقويض السلطنة، وفرض نظام علماني (“رغماً عن الشعب، ولكن من أجل الشعب” حسب عبارته الشهيرة)، يقوم على إلغاء الخلافة، وتخليص اللغة التركية من معجمها العربي لصالح الحرف اللاتيني. أولى مشكلات ذلك التغنّي أنه انقلب إلى وصفة جامعة مانعة في الغرب، ثمّ في الولايات المتحدة لاحقاً: الكمالية، أو نظام الحكم الأتاتوركي، هي الصيغة الوحيدة التي يمكن من خلالها تطبيق الديمقراطية في البلدان المسلمة، وبذلك فإنّ تركيا هي الديمقراطية الوحيدة في العالم المسلم.
غير أنّ ما مضى من عقود ستة ونيف، أعقبت زيارة لويس الأولى إلى الأرشيف العثماني، برهنت أنّ هذه الديمقراطية ترنحت مراراً تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش في تسديدها إلى قلب التجربة. وكان هذا يحدث كلما ارتأى مجلس الأمن القومي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، ممارسة ذلك الحقّ المقدّس الذي منحه لذاته بموجب النظام الكمالي، أي سلطة “الاجتهاد العلماني” (إذْ لـ”لأصولية العلمانية” اجتهاداتها، في أحكام فقهها!)، وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزِمة للمجتمع. ويستوي هنا أن يلجأ الجيش إلى القانون (المحكمة الدستورية وحلّ الأحزاب: أكثر من عشرين حزباً سياسياً حظرتها الحكمة أو قضت بحلّها، تذرّعاً بممارستها أنشطة إسلامية أو كردية انفصالية)، أو إلى حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس)، أو إلى الانقلاب العسكري بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.
وللروائي التركي ـ الكردي يشار كمال، ضمير فقراء تركيا وأحرارها على حدّ سواء، هذا القول البليغ عن الكمالية: “منذ 28 تشرين الأوّل (أكتوبر) سنة 1923، أيّ منذ اليوم الأوّل لتأسيسها وحتى الآن، تحوّلت الجمهورية التركية إلى نظام لا يُطاق من القمع والقسوة، وتمكنّت من تمويه هذه الصورة عن طريق شتّى أشكال الخداع (…) وليس مبالغة أنّ الأتراك في مناطق عديدة يتمنون ألف مرّة عودة الأوتوقراطية العثمانية”. وفي مثال قمع الأكراد تحديداً، يقتبس كمال استعارة رهيبة اعتمدها الجنرالات الأتراك أنفسهم: لكي تتمكّن من صيد كلّ السمك، ينبغي أن تجفّف البحيرة تماماً!
والحال أنّ أحد مظاهر ذلك التمنّي كان قد تجسد في النهوض الدراماتيكي للإسلام التركي المعتدل، أو المستنير، أو القابل باللعبة الديمقراطية وسلطة صندوق الاقتراع؛ وكان صعود “حزب العدالة والتنمية”، الحاكم اليوم ومنذ سنوات، بمثابة الترجمة الأكثر إفصاحاً عن المستويات السياسية والاقتصادية، وربما الاجتماعية أيضاً، لتلك الأمنية. ويكفي أن يقرأ المرء نتائج حزب أتاتورك (محتكر تمثيل العلمانية، الذي يحلّ في الأقسام السفلى من اللائحة الانتخابية)، لكي يدرك أنّ المسار الذي قاد إسلاميي تركيا إلى الحكم لم يكن أحادي الجانب، بل هو سيرورة معقدة تتصل بالمجتمع المدني والاجتماعَيْن السياسي والاقتصادي، قبل التوتر بين العلمانية وسواها من عقائد.
وبهذا المعنى فإنّ تظاهرات الاحتجاج التي تشهدها تركيا اليوم، أسوة بتظاهرة مليونية شهدتها اسطنبول في مثل هذه الأيام، سنة 2007، هي أشبه بأمنية مضادّة تحنّ إلى الأوتوقراطية الكمالية، إذا جاز التعبير، وتوحّد رغائب شرائح متباينة في المجتمع التركي. فإذا صحّ أنّ “حزب العدالة والتنمية” ـ وباستثناء تصريحات الغطرسة السلطانية التي صدرت عن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ومغالاة بعض قادة الشرطة في قمع الاعتصامات ـ ما يزال يتعامل مع الأمر بحكمة، وباحترام لحقّ التعبير والرأي الآخر؛ فلا ضرر في بروز هذا التمنّي الموازي، ولا ضرار.
ما دام أحد لا يحنّ إلى تجفيف بحيرة الديمقراطية، بالطبع!
موقع 24