“الديموقراطية” الإقصائية/ سمير العيطة
لبنان له كثير من العيوب. لكن يمتلك ميزة يتفرّد بها على صعيد الثقافة والممارسة السياسيّة بين البلدان العربيّة. لقد عوّدنا على صراعات فكريّة وسياسيّة حادّة بين أقطاب شديدي التناقض في أولويّاتهم الوطنيّة، فهذا فينيقيّ والآخر عروبيّ، ذاك مقاوم والآخر يقول أنّه جسر الغرب نحو الشرق، إلخ. هذا، وبعيداً عن الأسباب التي جعلت هذه الممارسة راسخة منذ انتهاء الحرب، ومهما كانت مخاطر تفجّر التناقضات، فإنّ القبول بالآخر، الشريك في الوطن، هو ما يمكن أن يسمّى «مناخاً ديموقراطياً».
لم تألف أغلب المجتمعات العربيّة هذا النوع من المناخ، بسبب الاستبداد المترسّخ منذ عقود. الاستبداد ليس وحده السبب. فما كان موجوداً في الخمسينيات من تعدديّة في الاستقطاب الفكريّ قد اضمحلّ. وما كنّا نشهده من صراعات بين تيارات قوميّة عربيّة ووطنيّة (قطريّة كما يقول البعثيّون) وقوميّة سوريّة، أو بين شيوعيّة واشتراكيّة وليبراليّة أو إخوانيّة (الإخوان المسلمون)، ترك الساحة لتيّارات حديثة، يتقدّمها إسلام سياسيّ متنوّع الغايات، وليبراليّة جديدة لا تتحدّث سوى عن الديموقراطيّة.
لا شكّ أن ديناميّات الإسلام السياسيّ تتفاعل بشكلٍ كبير في منطقتنا، من إيران إلى السعوديّة إلى تركيا، بل تبدو أنّها هي المحرّك الرئيس لتاريخنا المعاصر، خاصّة مع نشوء تنظيم «القاعدة» وتنوّعاته. أمّا الديموقراطيّة فهي أقلّ ديناميّة!
معظم المفكّرين من أصول يساريّة أضحوا ديموقراطيين، ومعهم ليبراليون ونيوليبراليون.
إنّ مواجهة الاستبداد الشرس الذي عانت منه الشعوب العربيّة شيء أساسي، لكن هل تكفي المناداة بالديموقراطيّة لمواجهته؟ وكيف يُمكن التمييز بين طروحات جورج والكر بوش حول نشر الديموقراطيّة بالقوّة وأهداف الربيع العربي التي رفعت جماهيره عفويّاً تعبيري الحريّة والكرامة؟
هناك إشكال في تعبير ديموقراطيّ. فهو قد يستخدم بمعنى نظام الحكم الديموقراطي الذي يحتكم لصناديق الاقتراع فقط (الدولة المدنيّة الديموقراطيّة المعهودة)، لكنّه يعني أيضاً مجتمعاً يتبنّى الحريّة والمساواة كقيمٍ أساسيّة. والفرق شاسع بين الاثنين. إذ هناك من يستخدم التعبير للقول إنّ الحكم للأغلبيّة تفرض ما تريده بمجرّد أن يصوّت برلمان يمثّلها على ذلك، دون أخذ مسائل أساسيّة تتعلّق بالمساواة في المواطنة وبالعدالة الاقتصاديّة والحريّات الفرديّة والمجتمعيّة بعين الاعتبار، مع التغاضي عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المال السياسيّ، خاصّة الخارجيّ، ووسائل إعلامه في الانتخابات وفي دفع قوى سياسيّة بعينها إلى واجهة المشهد. ناهيك عن تعقيدات وإشكاليّات النظام الانتخابي بحدّ ذاته.
وهناك إشكال أكبر في ما قد يحدث من تلاعب بمفهوم الديموقراطيّة، خاصّة حين يخفي استخدامه توجّهات طائفيّة أو إقصائيّة، بعيداً عن «المناخ الديموقراطيّ» في تقبّل الآخر شريكاً.
في هذا السياق، تضيء التجربة العراقيّة بشكلٍ فريد على القضيّة الديموقراطيّة. إذ إنّ الدستور القائم أسّس لنظام برلمانيّ مع انتخابات، وللامركزيّة في الإدارة المحليّة، أي لنظامٍ ديموقراطيّ شكليّاً. إلاّ أنّ عوامل كثيرة أدّت إلى الانفجار الحاصل، انطلاقاً من الممارسات الإقصائيّة وروح الانتقام وضعف الدولة والتدخّلات الخارجيّة في شؤون البلاد. ما جعل تنظيماً متطرفاً، يحظى بقبول وتأييد أطراف عديدة.
هذه التجربة تدفعنا للتساؤل عمّا إذا كان نقيض الاستبداد في حالتنا هو الديموقراطيّة، أم الحريّة والمساواة والكرامة؟ صحيحٌ كلّها تعابير، ولكنّ بعضها لا لبس فيه.
السفير