صفحات العالم

الدينامية المزدوجة في النزاع السوري

 


بيتر هارلينغ

إذا كانت الثورة في كل من تونس ومصر قد شهدت بعض الفصول الدرامية، فإن الحالة السورية أشبه بمسلسل غامض ومعقَّد لا نستطيع أن نحزر مسار

الأحداث فيه.

ينطلق العنف الذي يهزّ البلاد من حبكة مزدوجة. فمن جهة، نحن أمام ثورة تشنّها الأرياف التي أهملها النظام على الرغم من أنه منبثق منها. كان حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي، ينتمي إلى جيل من الغرباء عن العاصمة ذوي الأصول المتنوّعة جداً، وقد ناضل هذا الجيل للارتقاء اجتماعياً، والسيطرة على سلطة استولت عليها نخبة شبه إقطاعية، وبسط حضور الدولة نحو الأطراف، من خلال توفير الخدمات، وتوسيع الشبكة الإدارية، ونشر حزب “البعث”، وتطبيق مشاريع إنمائية كبرى، إلخ.

لقد نسي الجيل الموجود في السلطة الآن أصوله. فقد كبر في دمشق، واختلط بنخبة مدينية تظاهرت بقبوله، واستثمر في آلية لتحرير الاقتصاد لا تفيد سوى المدن الكبرى على حساب الارياف، تماماً كما يحصل في البلدان الأخرى. ففي الأرياف خارج العاصمة، توارت الدولة عن الأنظار، وكذلك الحزب، تاركةً للأجهزة الأمنية احتواء عدد متزايد من المشكلات هذا إذا لم تساهم فيها مباشرةً عبر التواطؤ مع المهرّبين والإسلامويين وشبكات الفساد. وفي كل مكان في سوريا تقريباً، بدأ هذا الإرث يخرج إلى العلن بقوّة.

ومن جهة أخرى، هناك الانتقام الذي ينفّذه النظام العلوي البوليسي الذي نشأ تحت جنح القمع الكبير في مطلع ثمانينات القرن العشرين، عندما واجه النظام انتفاضة مذهبية بقيادة “الإخوان المسلمين”. لقد فكّك بشار جزئياً هذا النظام الذي ورثه، عبر إبعاد بارونات الأجهزة الأمنية والحدّ من انتهاكات عملائها. ينفّذ الخاسرون في هذه العملية عودة قوّية الآن، ويتبع بشار الموجة، كما كان يحصل قبلاً في مراحل الأزمات.

إذاً ما يحصل على الأرض مختلف جداً عمّا يقوله النظام، على الرغم من أنه ليس مخطئاً على كل الأصعدة. فوفقاً للخطاب الرسمي، الثورة هي تمرّد يطغى عليه المتشدّدون الإسلاميون برعاية خارجية – في ما يشبه الظاهرة التي حصلت قبل 30 عاماً. بيد أن النظام يُقاتل قواعده الاجتماعية أكثر بكثير مما يقاتل قواعد “الإخوان المسلمين” – الذين لا تلقى المبادرات التي يُطلقونها من الخارج أصداء قوّية على مستوى الشارع. إذا كانت هناك من أصولية، فهي في شكل أساسي ناجمة عن الفراغ الذي تركه حزب عاجز ودولة منكفئة وقيادة تتحصّن في العاصمة.

في الأرياف خارج العاصمة، لم يعد السوريون يرون من النظام الآن سوى وجهه الأسوأ: الأجهزة الأمنية التي لا تكتفي بقمع المسلّحين في الحركة الاحتجاجية، بل تحاول سحقها كاملةً من خلال اللجوء التعسّفي إلى العنف، ومضاعفة الإذلالات، والعمل بشتّى الطرق على رفع جدار الخوف من جديد. لكنّها عبثاً تحاول، فالمتظاهرون لن يقبلوا أبداً بأن يكون مستقبلهم خاضعاً لحكم الأجهزة الأمنية. فما يريدونه جوهرياً هو حكم الدولة، أي شكل من أشكال الحكم يضمن لهم التمثيل السياسي وإعادة توزيع الموارد الاقتصادية بقدر من المساواة… وإمكان الاحتكام إلى القضاء في مواجهة العنف الذي تمارسه الأجهزة الأمنية.

تدعم الغالبية الصامتة النظام ضمناً، خوفاً من أن يُسرِّع سقوطه أيضاً في انهيار ما هو قائم من هيكليّة الدولة. إنها حال شريحة كبيرة من الأقلّيات (التي ترتعد لمجرّد التفكير في أجندة إسلامية مهيمنة)، والطبقات الوسطى (التي تستمدّ مكانتها إلى حد كبير من الدولة)، ورجال الأعمال (الخائفين على مصالحهم). تقلقهم ثورة الأرياف، والمعارضة في المنفى لا تطمئنهم، فهي تدعو إلى إسقاط النظام من دون أن تطرح أيّ بديل ذي صدقيّة.

والنظام الذي يُناشَد تأمين شكل من أشكال الاستقرار، يتصرّف بطريقة ليست أقلّ فوضوية، سواء في القمع أو الإصلاح أو الحوار مع المعارضة أو أيضاً في إدارة العواقب الاقتصادية المترتّبة عن الفوضى. وإزاء تصرّفاته هذه، يقتنع جزء متزايد من هذه الغالبية الصامتة بعجزه عن إيجاد مخرج؛ باختصار، على الرغم من أن الثنائية التي كانت السلطة تتسلّح بها “إما نحن وإما الفوضى” كانت نافعة جداً لها في البداية، إلا أن عدداً متزايداً من السوريين بات يردّ على هذه المقولة بالقول: “عندما تقع الفوضى ونعاني منها، من الأفضل التخلّص منكم أيضاً”. وهكذا يرسي النظام قواعد تعبئة من شأنها أن تتخطّى إلى حد كبير إطار ثورة الأرياف.

وهناك سيناريو آخر لا يمكن استبعاده على الرغم من أنه يبدو بعيد الاحتمال. توشك المقاربة الأمنية التي يعتمدها بشار وتحمل لواءها نخبة حريصة على حماية مصالحها أو تعزيزها، على إظهار فشلها الواضح. لا شك في أنها تسمح للنظام بأن يحتوي حجم التعبئة، لكنها لا تُطفئها. وهي تحفّز عسكرة بعض المجموعات المعبّأة على هامش التحرّك، مما يُكبِّد الأجهزة الأمنية مزيداً من الخسائر التي لا تستطيع تحمّلها في المدى الطويل. وتؤدّي إلى تواصل حالة من عدم الاستقرار تُفقِد النظام ما تبقّى له من الدعم. لكن نظاماً محاطاً بالكثير من الأعداء ولا يملك قاعدة شعبية راسخة لا يستطيع الصمود.

قد يدفع هذا الإخفاق بالنظام إلى البحث بصدق أكبر عن مخرج من الأزمة السياسية، عندما لن يعود لدى أنصار الخط المتشدّد ما يُقدِّمونه. يبدو الآن أنه لطالما كان الأمل في أن يأخذ بشار زمام المبادرة وينطلق في ثورة ضد محيطه، وهماً. لكن يمكن أن تتغيّر الديناميات داخل النخبة، لمصلحة عناصر أكثر عقلانية ومنطقية جرى تهميشها في السابق.

سوف تخسر الأسرة الحاكمة بالتأكيد المعركة للبقاء في السلطة وسط الفساد وعدم الكفاءة والإفلات من العقاب. القضية الوحيدة التي يستطيع الحكم أن يأمل في الدفاع عنها هي قضية الدولة، مما يقتضي التخلّص من جوانب عدّة تجعل منه “نظاماً”. في هذه المرحلة، يملك الأخير الخيار بين أن يتفكّك تلقائياً بفعل أخطائه وتجاوزاته وصولاً إلى الانفجار من الداخل أو أن يتفكّك بصورة طوعية ومنهجية. إذا سار في الخيار الثاني، فسوف يحتاج إلى كل الدعم الذي يمكن أن يقدّمه له المجتمع الدولي.

الاحتمال كبير بأن يختار النظام طريق الانتحار الجماعي. في هذه الحالة، سوف يكون كل شيء، في التحليل النهائي، رهناً بتصميم المجتمع السوري، الذي يقاوم في اللحظة الراهنة ديناميات الانفجار التي يستخدمها الحكم، على دفع الأخير نحو الانتحار الجماعي من دون أن يتبعه إلى ذلك.

(باحث فرنسي – “لوموند” ترجمة نسرين ناضر)

دمشق

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى