الديناميكيات الخارجية المؤثرة في الأزمة السورية والسلام بعيد المنال/ بدرخان علي
أولاً : مقدمة:
وسط أجواء انعدام الثقة والتصعيد العملياتي الميداني، إنعقدت في مدينة جنيف السويسرية جلسات تمهيدية للمفاوضات بين الحكومة السورية ووفد رئيس من المعارضة السورية، في الفترة 29/1- 2/2 سميت بمفاوضات/محادثات السلام السورية، بناء على قرار مجلس الأمن رقم 2245. في الواقع كانت مفاوضات جنيف 3 بعد فشل جولات ومحاولات سابقة بمثابة إمتداد لها. تم تعليق المفاوضات من قبل الأمم المتحدة درءاً لتوقفها نهائياً بعد الحملة العسكرية الروسية السورية المشتركة في ريف حلب الشمالي عشية المفاوضات. انعقد لاحقاً اجتماع ميونخ لـ “المجموعة الدولية لدعم سوريا ” لـ “كسر الجمود “، وركز البيان الختامي على “وقف الأعمال العدائية” (مع استثناء داعش وجبهة النصرة ومنظمات أخرى يحددها مجلس الأمن الدولي) وتسهيل وصول المساعدت الإنسانية لكافة المناطق، ومحاربة الارهاب، واستئناف محادثات جنيف، وعدم التطرق إلى العملية العسكرية الروسية الأخيرة في ريف حلب الشمالي التي أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من المواطنين بإتجاه الحدود التركية .
لا توحي المعطيات والمتغيرات على الساحتين السورية الداخلية والإقليمية المحيطة بأية بوادر لتحقيق تسوية سياسية أولية للأزمة السورية الكارثية المستمرة منذ خمسة سنوات، وإن على نحو بطيء وتدريجي، سوى أن هنالك ما يشبه الإجماع من قبل العديد من القوى الكبرى ومجلس الأمن الدولي على تطويق إرتدادات الزلزال السوري على الأمن الإقليمي والدولي ومحاصرتها ضمن سوريا، وعلى رأسها خطر التنظيم الإرهابي المتمثل بتنيظم الدولة الإسلامية “داعش” الذي يسيطر على أجزاء من سورية والعراق وخارجهما ويستقطب جهاديين من كافة دول العالم تقريباً مع ما يشكل ذلك من خطر على أمن الدول الغربية الآن ومستقبلاً، وكذلك ضغط اللجوء والهجرة إلى الدول الأوربية الذي يشكل لهذه البلدان تحديات اقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية
تحاول هذه الورقة تحليل تعقيدات العوامل الخارجية المؤثرة في الأزمة السورية في المدى المنظور، والتناقضات الكبيرة بينها، وبالتالي غياب فرص حل سياسي أو تسوية سياسية توقف القتال وتمهد لعملية سلام في سوريا.
ثانياً- القرار الأممي 2245 وإمكانات تنفيذه
شكّل صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2245 بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 بإجماع أعضائه الخمسة عشر بناء على المسودة التي تقدمت بها الولايات المتحدة، أملاً جديداً لبداية حل سياسي للأزمة السورية لدى الكثيرين من السوريين والمراقبين، سيما أن “تدابير بناء الثقة” التي اقترحها القرار تأتي في صلب المطالب الإنسانية الملحّة والإسعافية لجميع السوريين. كان في خلفية القرار المبني على المسودة التي تقدمت بها الولايات المتحدة تفاهمٌ روسيّ- أمريكيّ، بات واضحاً في عدة مفاصل وقرارات حساسة في مسيرة الأزمة السورية كملف نزع الأسلحة الكيماوية السورية، وإن سجل على القرار تراجعه النسبي عن بيان جنيف 1، الذي دعا إلى تشكيل “جسم تنفيذي كامل الصلاحيات” ، بينما ورد في القرار 2245 تشكيل “حكومة جامعة”، أي أقرب لمفهوم حكومة الوحدة الوطنية، مع إغفال الإشارة إلى دور الرئيس السوري بشار الأسد.
قرار مجلس الأمن مهم من حيث المبدأ بالنسبة للوضع الإنساني الكارثي الذي بلغته الأزمة السورية، إن لازمه الجدّية في التنفيذ من قبل القوى العالمية الكبرى الفاعلة في الأزمة السورية، يأتي أيضا تتويجاً لسلسة من قرارات ومبادرات خاصة بالأزمة السورية، لم تنفذ أيّ منها في الواقع.
مجمل التطورات الحالية في الأزمة السورية والمعطيات على الأرض لا توحي حتى الآن بوقف القتال والشروع في عملية سياسية، بسبب تعقيدات الأزمة السورية داخلياً وإقليمياً دولياً، وضراوة الصراع داخلياً وخارجياً، وامتناع النظام عن الاستجابة للشروط الأساسية لأية مبادرات تسوية حقيقية.
وبنفس الوقت سوف يعني فشل محادثات السلام السورية أن الحسم العسكري بات الطريق الوحيد لـ”حل” الأزمة وهو رهان دون جدوى وستكلّف السوريين جميعاً أزمة إنسانية هائلة ودماراً في البلد وتحطماً للمجتمع.
ثالثاً- العملية العسكرية الروسية، صفحة جديدة في الأزمة السورية
في 30 سبتمبر/أيلول 2015 بدأت المقاتلات الروسية أولى غاراتها الجوية في سوريا، بناء على تفويض للرئيس فلاديمير بوتين من مجلس الاتحاد الروسي واستناداً إلى طلب من “الحكومة الشرعية” في دمشق، كما تقول موسكو. وكانت القوات العسكرية الروسية قد قامت قبل ذلك بتأهيل منشآت عسكرية سورية لخدمة عملياتها العسكرية. أحدث التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا معادلة جديدة في الواقع السوري؛ وتتلخص بأن روسيا الاتحادية ليست لاعباً خارجياً كغيره من اللاعبين في الأزمة السورية، إنما اللاعب الأول وصاحب الكلمة المقررة في الوضع السوري، وأنها لن تتخلى عن نفوذها القديم في سوريا بسهولة، وأنها لن ترضى بسقوط النظام من غير أن يكون لها دور في الترتيبات القادمة المتعلقة بمستقبل سوريا ودورها الإقليمي، وإضعاف جميع التنظيمات المسلحة المعارضة للنظام، وخصوصاً الإسلامية منها. إذ تكن روسيا الاتحادية عداوة كبيرة تجاه تنظيمات الإسلام السياسي بكافة تشكيلاتها وأطيافها.
نص الإتفاق السري السوري- الروسي كما سربته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية عن موقع حكومي روسي غير معروف، موقع بين الجانبين الروسي والسوري يوم 26 أغسطس/آب 2015. هذا النص (1) يدل بوضوح على مدى حاجة النظام السوري لأي دعم خارجي بسبب تدهور قدراته العسكرية ومقدرته على الاستمرار في الحرب، نظراً لما يتوضح من نص الاتفاقية من مستوى منخفض للسيادة السورية وانعدامها على النشاط العسكري الروسي في سوريا لجهة حرية التصرف للجانب الروسي، وإعفاء القوات الروسية والنشاط الروسي العسكري من أي مساءلة أو تفتيش أو قيود أو ضرائب، ومنع المسؤولين السوريين من الدخول الى المنشآت العسكرية الروسية بدون اتفاق مسبق مع قائد المجموعة العسكرية الروسي، والمدة المفتوحة للاتفاقية. أي أن روسيا تتصرف في الواقع كدولة انتداب لسوريا، لكن بناء على دعوة رسمية من الحكومة القائمة في دمشق، التي ما تزال تمثل سوريا- الدولة في الأمم المتحدة حتى اللحظة، مثل جميع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، وتصفها موسكو بالحكومة الشرعية في سوريا وتبرر تدخلها بأنه تم وفق القانون الدولي.
بالطبع هناك دوافع وأهداف بعيدة المدى إقليمياً ودولياً للتدخل الروسي تتجاوز دعم النظام السوري، لكنه كان بنفس الوقت لمصلحة الجيش النظامي السوري وهو في طور تراجع كبير وحبل نجاة للنظام السوري، حيث مكّن التدخل الروسي الجيش السوري والميليشيات الرديفة من استعادة مساحات واسعة كان قد خسرها فيما مضى. كثّفت الطائرات الروسية من ضربها لكل منطقة توجد فيها فصائل مقاتلة ضد الجيش النظامي السوري. وليس فقط مواقع تنظيم “داعش”، إذ أن روسيا لا تجد نفسها معنية بالتصنيفات الدارجة عن معارضة معتدلة وأخرى نصف معتدلة وأخرى إرهابية؛ فحسب التقييم الروسي أي تنظيم يقاتل الجيش النظامي السوري يعتبر إرهابياً، وهو نفس التقييم السوري الرسمي، رغم بعض التصريحات الإعلامية التي أدلى بها مسؤولون روس حول استثناء بعض فصائل “الجيش الحر” من تصنيفها للمنظمات الإرهابية.
ويبدو أن العملية العسكرية الروسية تأتي بعد دراسة ومشاورات طويلة مع أطراف أخرى فاعلة في الأزمة السورية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية منافستها اللدود، وإسرائيل، أكثر الدول معنية بتطورات الوضع السوري وأقلها إثارة للضجيج الإعلامي، إلى جانب حليفتها القوية الصين، وبالطبع إيران الدولة الإقليمية المنخرطة بقوة في الأزمة السورية. إذ استغلت روسيا الاتحادية، وهي في طور اندفاعة قومية قوية، سياسة الإدارة الأمريكية الحالية (أو ما أطلق عليه “مبدأ أوباما”) في الشرق الأوسط القائمة على عدم التدخل العسكري المباشر والدفع بجيوشها في مناطق بعيدة وخطرة كالشرق الأوسط، بعد تجربتي العراق وأفغانستان والاعتماد على حلفائها الإقليميين والمحليين والوسائل الدبلوماسية وتركيز اهتمام الولايات المتحدة خارجياً على القارة الآسيوية والعملاق الصيني الناهض بدل الغرق في أزمات الشرق الأوسط عسكرياً واقتصاديا.
وإلى جانب التنسيق الأمريكي- الروسي في العمليات الجوية، فقد تشكلت لجنة عسكرية مشتركة روسية- إسرائيلية مهمتها التنسيق المباشر بين الطرفين بخصوص العمليات الميدانية، سيما في جنوب البلاد وحفظ أمن دولة إسرائيل من أي تطورات عسكرية أمنية على حدودها مع سوريا، وضمان ألا تقع أسلحة الجيش السوري أو التي يزودها بها روسيا الاتحادية أو إيران في يد حزب الله، الحليف الميداني القوي للجيش السوري في العديد من الجبهات ضد المعارضة المسلحة. وهذا مؤشر، في هذا السياق، على مدى تعقيد الأوضاع الجيوبوليتكية في سوريا وجوارها، وخطورة العمليات العسكرية والأمنية في سوريا وانعكاسها على الجوار. روسيا تدعم الجيش السوري في حربه ضد معارضيه، بتفاهم مع دولة إسرائيل، وعلى الأرض حزب الله حليف قوي أساسي للجيش النظامي السوري، لكنه عدو كبير لدولة إسرائيل التي تنسق عسكرياً مع روسيا الاتحادية التي تدعم خطط حزب الله في سوريا كمحصلة موضوعية. إنها لعبة ملغومة حقاً. ولا يمكن تفسيرها إلا برغبة إسرائيل في استنزاف جميع الأطراف في سوريا (دولة- نظام- جيش- معارضة مسلحة-حزب الله- إيران- التنظيمات الجهادية- المجتمع السوري ككل..) كمصلحة استراتيجية كبرى. ليست لعبة مضمونة حتى النهاية بالنسبة لإسرائيل (ولا لغيرها من الأطراف) إذ أنها تخشى في نفس الوقت من وصول أسلحة متطورة لحزب الله، واكتساب مقاتلي الحزب خبرة ميدانية أكثر، أو تغير الموازين المعهودة للصراع السوري-الاسرائيلي نحو المجهول وتأثير الفوضى داخل سوريا والمنطقة على أمن إسرائيل. عين إسرائيل بالدرجة الأولى هو على الجبهة السورية الجنوبية وعلى تحركات حزب الله ونشاطه العسكري وتسلّحه ومصير ترسانة الأسلحة السورية وخصوصا الأسلحة غير التقليدية. الأهداف الإسرائيلية الأخرى؛ إضعاف سورية كدولة وجيش ومجتمع، تحققت بما فيه الكفاية، من دون أن تخسر دولة إسرائيل جندياً واحداً
رابعاً – التحالف التركي- السعودي- القطري و العملية العسكرية الروسية
قُبيل العملية العسكرية الروسية في سوريا كان التحالف التركي السعودي القطري، الداعم الرئيسي لفصائل المعارضة السورية المسلّحة، التي تهيمن عليها التوجهات الإسلامية المحافظة أو الإسلامية الجهادية العابرة للحدود، قد مكّن تلك الفصائل من تحقيق بعض الإنجازات الميدانية في مناطق وسط البلاد وشمال غرب البلاد وإحراز تقدم واضح وألحقت خسائر كبيرة بالجيش النظامي السوري وحلفائه، بفضل بعض الأسلحة المتقدمة التي قدمت لتلك الأطراف، بشكل خاص صواريخ تاو( (BGM-71 TOW أمريكية الصنع المضادة للدروع/ الدبابات وبإمكانها اختراق وتدمير الدبابات والآليات عسكرية أخرى، وصواريخ الكونكورس(9M113 Konkurs الروسية الصنع المضاد للدبابات). لكن هذا التقدم الميداني، والتحالف الإقليمي الذي يقف خلفه، تلقى نكسة كبيرة فور بدء العملية العسكرية الروسية.
وردت أيضاً تقارير عدة عن مجموعة «هاكرز» أوكرانية كشفت عن أن “الحكومة القطرية عقدت مفاوضات مع كييف، في أواخر شهر أيلول الماضي، لشراء أنظمة دفاع جوي حديثة من طراز بيتشورا ــ 2، يُعتقد أن هدفها النهائي هو المجموعات المسلحة السورية التي تتلقى الدعم من الخليج. الوثائق المسربة تكشف أيضاً أن هذا الفعل، الذي يتحدى بشكلٍ صارخ التحذيرات الروسية ــ لكلّ الأطراف ــ من تزويد المسلحين بسلاح مضاد للطائرات، كان يجري بمعرفة واشنطن وأنقرة وتعاونهما”(2)
شكل التدخل الروسي أيضاً نكسة كبيرة للجهود التركية المستمرة في السيطرة على شمال سوريا، أو أجزاء منها على الأقل عبر تدخلها العسكري المباشر “تحت غطاء منطقة آمنة/ عازلة” أو عبر تنظيمات سورية مسلحة مدعومة من أنقرة. قبل ذلك تحدثت تقارير إعلامية عن اتفاق أمريكي- تركي حول مساحة هذه المنطقة وتنفيذها. وبعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الدفاعات التركية، بلغ التوتر بين روسيا وتركيا حداً غير مسبوق وألقى التوتر بظلاله فوق مجمل الأوضاع في سوريا والمنطقة. قامت روسيا على الفور بنشر منظومة دفاع جوي s400 في مطار حميميم باللاذقية في غرب البلاد، وهي منظومة حديثة جداً بإمكانها إسقاط أي هدف جوي من طائرات أو قاذفات وحتى الصواريخ البالستية أو طائرات الشبح الأمريكية، وتغطي مدى جوياً واسعاً من أي تدخل جوي محتمل من قبل تركيا أو غيرها، من دون الاتفاق مع القوات الروسية. وبحسب مصدر روسي عسكري “يقوم رادار هذه الصواريخ بتغطية أراضى سوريا وكشف كل شئ يطير، كما يغطي المناطق الغربية من العراق، وإسرائيل والأردن كلها، وشمال سيناء في مصر، وجزء كبير من المجال الجوي التركي بما فى ذلك أنقرة، والجزء الشرقي للبحر المتوسط”.(3)
مع بدء العملية العسكرية الروسية، وبشكل خاص بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل القوات التركية أصبح مشروع “المنطقة الآمنة/ العازلة” التي كانت تنوي تركيا إقامتها في مناطق بشمال سوريا في حكم شبه المستحيل.
خامساً- هل هناك تسوية سياسية في سوريا؟
حين يتعلق الأمر بتوقع مستقبل أزمة معقدة ومتشابكة كالأزمة السورية يجب أن يتحلى المرء بشيء من التواضع في تخمين المآلات والممكنات. ووفق تعبير أحد الباحثين المتابعين لمجريات الأزمة السورية إن سورية تستحق بجدارة سمعتها كـ”مقبرة للتحليلات السياسية” بعد أربعة سنوات من انطلاق الانتفاضة، وأن المزيد من البيانات الواثقة والتقارير والمقالات سوف تتكدس قبل أن تضع الحرب أوزارها.(4)
نظرياً، من دون قطع التمويل والامداد العسكري عن فصائل المعارضة، ومن دون إلتزام روسيا بالضغط على الرئيس السوري لإبداء تنازل حقيقي، أي بمعنى قبوله بالرحيل عن السلطة مع الحلقة الضيقة المحيطة به في مرحلة ما من مراحل العملية الانتقالية، فإن المفاوضات لن تثمر عن عملية سياسية حقيقية. وهذا قد يكون ممكناً في حالة وحيدة وإن بدا قليل الإحتمال راهناً، إذا أرادت روسيا الاتحادية الحفاظ على نفوذ ما في سوريا المستقبل (عبر المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل خاص) وفي منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية في الحسابات الروسية، إذ يفترض أن المصلحة الروسية تكمن في عدم تحول سوريا إلى حطام شامل ( فور بدء العملية الروسية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن على الرئيس السوري بشار الأسد التحضير لتسوية سياسية وتقديم تنازلات)، وحتى في حال تحقق هذه الشروط مجتمعة؛ فإن فرص تحقق سلام في سوريا لن تكون سهلة، إذ أن للقضية السورية أبعاداً داخلية كبيرة، وليس فقط حرب بالوكالة وصراعات محاور ومصالح خارجية. صحيح أن كتلة وازنة من المجتمع السوري (يمكن القول بشيء من التخمين أنها لا تقلّ عن حوالي 50% من السكان) لها مصلحة في إنهاء الحرب والوضع المأساوي الراهن بأي حل وأية طريقة وتأمل ذلك بفارغ الصبر؛ إلا أن الحرب الأهلية السورية حفزت ديناميات خطيرة في المجتمع السوري جراء العنف الممارس والفظائع والويلات التي عانى منها مجتمع الحرب، وتدهور البنية التحتية والاقتصاد الوطني، والانقسامات الاجتماعية الواسعة.
سادساً- التطورات الدولية والإقليمية والسيناريوهات المحتملة: “التوازن الكارثي”
1- من مراقبة نشاط التسلح الروسي في سوريا والبحر المتوسط، يبدو أنها تحضر لتواجد قوي وبعيد المدى، من حيث إرسال أحدث الاسلحة الهجومية وأجهزة المراقبة والرصد والدفاعات الجوية(5). وإذا عرفنا أن روسيا تعيش حالة أزمة اقتصادية داخلية بسبب انخفاض أسعار البترول والعقوبات الاقتصادية، فإن هذا الانخراط العسكري المكثّف والمكلف اقتصادياً يعني أن ثمة أهمية خاصة لسوريا وموقعها في الاستراتيجية الروسية الراهنة والمستقبلية. إضافة إلى توسيع علاقاتها (مع حليفتها القوية الصين)، مع دول الخليج ومصر وعقد الصفقات العسكرية الضخمة وبناء علاقات اقتصادية في مجالات الطاقة وغيرها، وتطوير علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع إيران بعد فك الحصار الدولي عنها وبناء علاقات مع العراق- الذي يعتبر مجال نفوذ أمريكي – كل هذا يعني أنها روسيا الاتحادية أصبحت صاحبة الكلمة المقررة و النفوذ الأكبر في سوريا وعادت بقوة إلى المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وبالتالي عالمياً. على الأرجح أن الولايات المتحدة لا تنظر بعين الارتياح لهذا الدور الروسي في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وتبدو منافساً لها على أكثر من صعيد ومجال نفوذ أمريكي تقليدياً. بيد أنه فيما يخص الأزمة السورية، ثمة ما يلتقي عليه الجانبان الروسي والأمريكي. وليس هناك مؤشرات على الدخول في مواجهات بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، أقله فيما يخص الأزمة السورية. سيما أن استمرار الاستنزاف القائم في سوريا مصلحة أمريكية وإسرائيلية بنفس الوقت، بشرط أن يكون الاستنزاف مضبوطاً وتحت السيطرة قدر الإمكان .
2- الإدارة الأمريكية في سنتها الأخيرة أي سنة “البطة العرجاء” كما يقال هناك، وبالتالي من غير المحتمل أن تغير سياستها الراهنة من الأزمة السورية التي يمكن تلخيص ملامحها العامة في إعطاء الأولوية لتقويض وتقليص نفوذ تنظيم داعش في العراق وسوريا (وبالنسبة للولايات المتحدة يحتل العراق أهمية أكبر بكثير من سوريا، ما عدا جزئية حدودها مع اسرائيل) وإنهائها كـ”دولة”. أمريكا تتجنب الدخول العسكري المباشر في حروب خارجية مكلفة، والإكتفاء بإرسال مستشارين عسكريين واستخباراتيين إلى المنطقة، كما تتجنب القيام بأي عمليات عسكرية ضد الجيش السوري النظامي، والاكتفاء بالقصف الجوي لمواقع تنظيم الدولة الإسلامية، مع إدارة الأزمة من خلال حلفائها المحليين والإقليميين، والحفاظ على أمن أسرائيل من أي تطورات مفاجئة، السماح بتوريد بعض الأسلحة المتطورة لفصائل المعارضة تحت ضغط وإلحاح حلفائها “تركيا ودول الخليج”، وأخيرا التفاهم مع روسيا الاتحادية في الكثير من الملفات فيما يخص الأزمة السورية، أي كمحصلة بقاء “التوازن الكارثي” القائم.
3 – إيران مستمرة على موقفها الثابت والمبدئي في الإبقاء على الدعم المادي والعسكري والأمني المباشر للنظام والتنسيق مع روسيا الاتحادية في هذا المجال. من غير المحتمل أن تقدم إيران على تنازل في ملف سوريا، خصوصاً بعد الاتفاق النووي الإيراني وفك عزلتها الدولية والإفراج عن أرصدتها المجمدة سابقاً بموجب العقوبات الدولية.
4 – في الجبهة الشمالية يبدو السيناريو الأكثر إحتمالاً على ضوء التوزانات الإقليمية والدولية هو أن يزيد التحالف التركي- السعودي- القطري من دعمه لفصائل المعارضة المسلحة، وتزويدها بأسلحة أكثر تطوراً من ذي قبل أو بكميات أكبر من ما هو متوفر خاصة صواريخ التاو المضادة للدروع. من المستبعد أن يقدم هذا التحالف على القيام بعمليات برية كبرى داخل الأراضي السورية، في الفترة المقبلة، خارج نطاق الحرب ضد “داعش”، وإن حصل وأقدمت تركيا على مغامرة من هذا النوع تحت الضغط النفسي والتحدي المعنوي الذي وضعته الحكومة التركية نفسها فيه، من جراء الوعود والتهديدات المكررة بتنفيذ هذا الوعد، إن أي مغامرة من هذا القبيل ستجابه برد فعل روسي شديد، مما يزيد من المأساة الإنسانية في شمال سوريا، وتعقيداً كبيراً في الأزمة السورية وفوضى كبيرة، وزيادة منسوب العنف من جهة أخرى. نستبعد التدخل البري التركي لأن التدخل من جانب تركيا لا يحظى بقبول موافقة أمريكية- أطلسية – أوربية (باستثناء الموقف الفرنسي المتماهي مع الموقف القَطَري- التركي في الأزمة السورية منذ بداية الأزمة)، كما أن المؤسسة العسكرية التركية لا تدعم خيار حزب العدالة والتنمية الحاكم في الدخول في مغامرة عسكرية برية داخل الأراضي السورية، وإن كانت المؤسسة العسكرية ترغب في الحد من تقدم وحدات الحماية الكردية وحلفائها في “قوات سورية الديمقراطية” على الحدود التركية الجنوبية.
ستواصل تركيا سياستها الرافضة للنهوض الكردي في سوريا وتحاربه بشتى الوسائل، مباشرة وخلال تنظيمات سورية موالية لها. وستواصل كذلك الضغط على أوربا والولايات المتحدة للقبول بالمشروع التركي لإنشاء منطقة عازلة (آمنة) في شمال سوريا، تحت ذريعة حماية اللاجئين السوريين. والهدف المباشر لهذا المشروع هو مكافحة التقدم الكردي في سوريا، وتمكين التنظيمات المسلحة المدعومة من أنقرة في شمال سوريا، ووضع اليد على مناطق الشمال السوري بأكمله، كمنطقة هيمنة مباشرة وضمان نفوذ على سوريا ككل في المستقبل. بالنسبة لأوربا، تملك الحكومة التركية ورقة حساسة هي ورقة اللاجئين السوريين للتهديد. أي أن ينفذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتهديد الذي أطلقه في وجه أوربا “بإغراقها باللاجئين السوريين” عبر اليونان وبلغاريا.(5)
وبالنسبة للولايات المتحدة تستطيع تركيا الضغط عليها عن طريق عدم تعاون جدي مع الولايات المتحدة في مكافحة تنظيم “داعش” وشبكات تنظيم القاعدة في سوريا والعراق، حيث تعاون الحكومة التركية مهم في هذا المجال. لكن يبقى خيار الإجتياح البري من قبل التحالف التركي-السعودي – القطري مستبعد لأسباب عديدة، فقد حاولت تركيا مراراً الحصول على موافقة أمريكية- أطلسية للدخول براً ولم تنجح، وكان هذا قبل التدخل الروسي في سوريا الذي غير موازين القوى كلياً في غير مصلحة السياسة التركية. أما السعودية فهي تخوض حرباً في اليمن وتعاني من عقبات عديدة هناك، وهي في طور تحسين العلاقات مع روسيا الاتحادية (وحليفتها الصين) لا المواجهة، رغم المحاولات العديدة والمستمرة في التاثير على موقف روسيا الاتحادية في الأزمة السورية. ستكتفي السعودية بزيادة الدعم العسكري للفصائل المسلحة كما تم الأشارة أعلاه، والدعم السياسي والمالي واللوجستي للهيئة المنبثقة عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية وبعض الفصائل المسلحة، كجيش الإسلام على وجه الخصوص، والعمل من خلال “الجبهة الجنوبية”. لقد وقعت السعودية بعد العملية العسكرية الروسية في سوريا عقوداً في مجال التسلح والطاقة مع روسيا، وكذلك مع الصين التي زار رئيسها شي جين بينغ السعودية في جولة شرق أوسطية شملت مصر وايران أيضا، بالإضافة إلى أن روسيا الاتحادية لم تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد القرار رقم 2216 بتاريخ 14 أبريل/نيسان 2015 الذي أجاز التدخل العسكري السعودي-الخليجي في اليمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كلّ ذلك مؤشرات على أن هناك مصالح اقتصادية تتبلور أكثر من ذي قبل بين المملكة العربية السعودية وروسيا والصين، في ذروة الخلاف والتناقض الكبير في الموقف من الأزمة السورية. نرجح الاعتقاد في أن التصادم المباشر بين المملكة السعودية وروسيا في سوريا غير وارد.
5- الجبهة الجنوبية: تكتنف هذه الجبهة أهمية أكبر بكثير من الجبهة الشمالية على الحدود السورية التركية، أو الجبهة الشرقية مع العراق، لأنها على الحدود السورية مع إسرائيل والأردن. ولنفس السبب هي مضبوطة إلى حد كبير من قبل غرفة “الموك” في الأردن، وهي غرفة عمليات عسكرية وإستخباراتية تديرها المخابرات المركزية الأمريكية والأردنية والسعودية وغيرها من دول “أصدقاء الشعب السوري”، تشرف على تدريب وتمويل فصائل عسكرية من “المعارضة المعتدلة” والتنسيق بينها وتوجيه نشاطها الميداني. وهي تتحكم بالخطط العسكرية للمعارضة في الجبهة الجنوبية، بما فيها منع أو توجيه تلك الفصائل نحو العاصمة دمشق في أي وقت.
6- سيطرة الجيش النظامي السوري وحلفائه على بعض المناطق التي تم استعادتها، ستبقى هشة ومرضة للخسارة مجدداً. كما لن تستطيع القوة الجوية الروسية استعادة سيطرة الجيش السوري على مساحة سورية بأكملها بأي حال من الأحوال.
سابعاً- تساؤلات ومخاطر
- إلى متى تستطيع روسيا الاستمرار بحملتها العسكرية في سوريا، وهي تعيش أزمة اقتصادية؟ وهل يحتمل أن تتورط في الأزمة السورية باستنزاف غير محسوب في هذه المنطقة عالية الخطورة .. خصوصاً اذا ما تطور التوتر الروسي التركي إلى صراع استنزاف مباشرة في سوريا، أو في خارج سوريا؟
- هل تسعى فعلاً روسيا إلى تقوية النظام السوري في وجه معارضيه، الذين تعدهم روسيا كأعداء لها، وإجباره على تسوية سياسية تفضي في نهاية المطاف إلى الاستغناء عن الرئيس السوري بشار الأسد وحلقته الضيقة، مع ضمان نفوذ روسي في سوريا مستقبلاً، أو على أجزاء منها في أقل تقدير في الساحل السوري مثلاً، حيث المياه الدافئة، المنفذ البحري الوحيد للقوة العسكرية الروسية؟
- مع إطالة أمد الأزمة السورية، والتدخل السوري العسكري في سوريا، قد يحصل تصادم مع قوى إقليمية محلية أو حتى مع الولايات المتحدة. أو تطورات غير محسوبة لأي طرف من الأطراف.
ثامناً- خاتمة
يوماً بعد يوم تتقلص فرص السلام في سوريا بزيادة عدد اللاعبين وتأثير الحرب المدمر على المجتمع والدولة، ورغم صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يلبي مبدئياً العديد من شروط وقف القتال والشروع في عملية سياسية، ومع أنه يمكن أن تفضي التحركات الدولية القادمة بخصوص الأزمة السورية في جنيف وغيرها، وقد يتحقق بعض التقدم في القضايا الإنسانية الملحّة كالإفراج عن عدد من المعتقلين في سجون النظام والجماعات المسلحة، وفك الحصار عن بعض المناطق، وتبريد جزئي للصراع في مناطق متفرقة من البلاد وهذا أمر محمود بالطبع في الشروط السورية الكارثية؛ إلاّ أنه نظراً لخصوصية الأزمة السورية من حيث
تعنّت النظام ورفضه لتقدم تنازلات جدية وذات معنى أولا. وارتهان قرار النظام والمعارضة المسلحة معاً للعديد من القوى الخارجية ثانيا، و كذلك تعدد الفاعلين واللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين في الشأن السوري في المقام الثالث، فضلا عن تشرذم قوى المعارضة والجماعات المسلحة وتباين الأهداف والبرامج وأخيرا إطالة أمد الأزمة السورية مع ما أفرز ذلك من انقسامات اجتماعية ومآسي وفظائع بين مكونات وشرائح المجتمع السوري بسبب العنف والعنف المضاد .. لكل هذه الأسباب وأخرى ثانوية نرجح أن يظل الطريق طويلاً من أجل إنجاز أسس أولية لعملية سلام مستدامة تضع حداً للحرب السورية.
كاتب في الشؤون السورية والكردية
مركز رووداو للدراسات
شباط 2016