الربيع العربي بما هو استجابة للمعلوماتية/ إبراهيم غرايبة
هل يمكن وصف الربيع العربي بأنه تعبير عن «التشكلات الاجتماعية والثقافية حول اقتصاد المعرفة القائم أساساً على الحاسوب والانترنت»؟ المجتمعات والطبقات تسعى دائماً الى تحقيق مصالحها وأهدافها والتأثير في السياسات العامة والاقتصادية وفق هذه الأهداف والمصالح، والتقنيات والموارد والفرص المتشكلة تمثل دائماً أداة للتأثير والتغيير، فالتقنية ليست مجرد تطبيق لاكتشاف علمي، ولكنها متوالية اجتماعية ثقافية، وتقتضي أيضاً مضامين وسياسات وقيماً وثقافة جديدة. وفي هذا التفاعل بين التطلعات والموارد والتقنيات ينشأ بطبيعة الحال الصراع بين الطبقات والمصالح بمعناه الاجتماعي والسياسي سلمياً وتنافسياً، أو يتجه إلى العنف أو الصراع الصفري عندما تعجز الطبقات الوسطى بخاصة ذات الطبيعة السلمية عن إدارة الصراع والتأثير فيه فتنسحب لمصلحة جماعات مشحونة بالغضب ومستعدة للموت في مواجهة طبقات ومصالح تجد مصيرها النهائي في استمرار الأوضاع القائمة ومقاومة التغيير بكل الوسائل الممكنة من دون مجال للتسوية أو التنازل والتفاهم!
يدور الإصلاح باعتباره تغييراً الى الأفضل أو باتجاه أهداف تتواضع عليها الأمم والمجتمعات حول وعي الطبقة الوسطى للفرق بين ما تحب أن تكون عليه والواقع القائم، وهي في ذلك تبحث عن الوسائل التي تؤثر بها في السياسات العامة والأسواق. لكن لماذا الطبقة الوسطى هي التي تقود الإصلاح؟ لأنها ببساطة ووضوح تملك الوعي بما تحب أن تكون عليه، وما يجب فعله لتحقيق ذلك، ولها مصالح أساسية في الإصلاح لا تتحقق من دونه، فهي لا تملك الموارد التي تستغني بها عن إصلاح الخدمات العامة الأساسية التي يجب ان تقدمها الدولة، فلأجل حماية نفسها ومصالحها من الدولة والشركات تلجأ إلى تنظيم نفسها والبحث عن وسائل وقوة تؤثر بها في الأسواق والحكومات، وهذا هو الإصلاح ببساطة.
وأما النخب القائمة والمهيمنة (النخب بمعنى القادة السياسيين والاقتصاديين) فلا مصلحة لها (غالباً) في الإصلاح والتغيير، باعتبارها مستفيدة من الواقع القائم، او لأنها غالباً تخشى من التغيير او ضياع مصالحها ومكتسباتها القائمة، وفي أحيان كثيرة تقوم مصالحها ومواردها على الفساد والاستبداد وغياب العدالة والحريات. فبغير الاحتكار وتهميش المجتمعات لم تكن نخب كثيرة لتحصل على ما حصلت عليه من فرص ومكاسب.
والفقراء والأقل تعليماً، فهم وإن كانوا يتطلعون إلى تحسين حياتهم وفرصهم، فإنهم في الغالب لا يملكون الوعي الكافي لتمييز مصالحهم، ويتوهمونها في كثير من الاحيان بتأييد النخب القائمة والسعي الى اكتساب حمايتها ورعايتها، أو أنهم يعيشون في حالة من التهميش المتراكم والراسخ، ما اورثهم سلبية وعزلة عن العالم المحيط، أو أنهم يشعرون بالضعف والخوف لدرجة تمنعهم من المشاركة في الإصلاح والسعي إليه، أو أنهم يقدرون أن فرصهم الاقتصادية والمعيشية ستبقى كما هي في كل الاحوال، ولا يرون افقاً أو أملاً ممكناً في الإصلاح والتغيير. لكن الإنترنت أتاح فرصاً جديدة للطبقة الوسطى وجماعات الشباب والتأثير والمجتمعات بعامة للعمل والتشكل، ففي هذه الشبكية للموارد والفرص والأعمال تنشأ فرص جديدة وأعمال جديدة وقدرات جديدة للتأثير، ما الذي أنشأته شبكة الإنترنت من قيم وثقافات وفرص جديدة؟ ماذا غيرت/ تغير في تشكلات الطبقة الوسطى وسعيها الدائم إلى الإصلاح؟ ثمة مساحات واسعة للتأمل والملاحظة.
يمكن وصف مرحلة اقتصاد المعرفة تقنياً بأنها سلسلة من الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة، فالحوسبة بما هي محاكاة للإنسان وترميز رقمي للنصوص والصوت والصورة والمعارف والخبرات والمهارات أنشأت عالماً جديداً من الموارد والفرص والمهن والأعمال، وغيّرت الحالة السابقة من القوى والعلاقات والمؤسسات والقيادات، إضافة الى المهن والأعمال، وأتاحت المجال واسعاً للتأثير والتعليم والتدريب والإحاطة الواسعة لفئة واسعة من المجتمعات والطبقات لم يكن في مقدروها ذلك أو كانت تحتاج الى نفقات وأوقات طائلة.
وفي التشبيك وثورة الاتصالات أمكن اتاحة المعرفة والمحتوى الرقمي على شبكات الانترنت والاتصالات؛ ما أتاح المجال بلا حدود لجميع الناس للاطلاع والتواصل والإحاطة المعرفية والتدريب والتعليم والتعلم والتأثير والتجمع وتبادل المعلومات والخبرات والتسويق والبيع والشراء على نحو مدهش بتكاليف قليلة وبمهارات ممكنة لجميع الناس، لدرجة أن العالم القائم اليوم يمكن وصفه ببساطة بأنه «access» الوصول الى الشبكة. فبمجرد الوصول إلى الشبكة، يصبح الأفراد والشركات والمجتمعات والجماعات أعضاء متساوين (تقريباً) في التأثير والمشاركة.
وفي التصغير أمكن تقليل النفقات والطاقة التي يحتاجها التشغيل ونقل الأجهزة المتقدمة إلى اي مكان في العالم، ثم في تصغيرها صارت تقنيات المعرفة والحواسيب متاحة لجميع الفئات العمرية والاقتصادية، وبمزيد من التصغير أمكن أداء مجموعات واسعة من التطبيقات والأعمال والإنجازات في المعرفة والطب والصيانة كانت تبدو متعذرة او مكلفة جداً.
وبأنسنة التقنية، أي بمحاكاتها للإنسان، وبتصميمها وبرمجتها على النحو الذي يتيح لكل انسان تقريباً وبمهارات وخبرات عادية وعامة من دون حاجة الى وساطة مختصين أو مساعدتهم، أمكن كل إنسان تقريباً أن يعمل بنفسه ولنفسه في الحياة والعمل والخدمات والتعليم والعلاج والتواصل والتسويق، وأن يكون ما يحب وما يريد أن يكون عليه وأن يحظى بمساعدة وخدمات كبيرة ومتسعة ومتعددة يقدمها له الحاسوب أو الشبكة كانت تحتاج من قبل إلى مكاتب ومساعدين ونفقات لا تقدر عليها الا فئة قليلة من الناس وطبقات المجتمع والسوق والحكم.
في هذا المسار التقني وحوله تمكن ملاحظة منظومات واسعة من التحولات الكبرى والجذرية في العلاقات والموارد والتأثير والفئات الصاعدة والمنسحبة والمنقرضة. ويمكن وصف هذه التحولات وإجمالها بمجموعة من المنظومات، مثل: من الصناعة إلى المعرفة، ومن الهرمية إلى الشبكية، ومن الحتمية إلى الاختيار، ومن التلقي إلى المشاركة.
في التحول من الصناعة إلى المعرفة صعدت الفئات العاملة في المجال الإبداعي والمعرفي، مثل التصميم والبرمجة والإعلام والنشر والبحث، وأصبح الخيال هو المورد الرئيس الذي يقود التقدم والتحولات، وفي التحول من الهرمية إلى الشبكية تغير دور الدولة والنخب وعلاقاتها بالأفراد والمجتمعات… اليوم ثمة مساواة مدهشة، في الحصول على المعلومات وتبادلها وفي التأثير والتعليم والفرص، وفي التحول من الحتمية الى الاختيار لم يعد الأفراد والمجتمع ملزمين بما تقدمه لهم جهات إعلامية أو معرفية او سياسية محددة، لكنهم يغرفون من مصادر في كل أنحاء العالم بلا حدود، وهم أيضاً لا يتلقون فقط المعرفة والمعلومة والخبر ولكنهم يشاركون في تقديمها وعرضها ونشرها.
وهكذا، فالربيع العربي هو ببساطة الفرصة الناشئة عن علاقة الإنسان بالحاسوب والانترنت!
* كاتب أردني
الحياة