صفحات الرأي

الربيع العربي: فوضى هدّامة أم نهضة خلاقة!


مطاع صفدي

هل نقول أن الثورة أمست تواجه أخطر أعدائها في داخلها وليس من خارجها فحسب، هذه الحقيقة ينبغي الاعتراف بها في هذا الوقت الذي يصل فيه الربيع العربي إلى منعطف لم يكن يحلم به كل متفائل مهما ابتعدت به آماله، ذلك أن شعوبنا العربية محتاجةٌ إلى نوع ذلك الحراك الأعنف الذي تعيشه الأمم في أوقات تحولاتها العظمى، فمن حيث الأمل بالمتغيرات التي قد تصنع نفسها بنفسها أحياناً في مجال الاحتدامات الثورية هي التي يمكن أن تنقلب إلى أضدادها بين لحظةٍ وأخرى. فمن طبيعة الهيجان الشعبي أنه يحدث من دون تبصّر أحياناً وقد يبدأ من منعطف فاتحٍ على آفاق جديدة ثم ينقلب إلى طرقات مسدودة.

هذا يقع للثورة السورية بشكل خاص، عندما تمتد إليها مختلف الأيدي المتعاكسة من كل حدبٍ وصوبٍ. فالأمر العظيم يستدعي الاستغلال من كل جهة، وثورة سورية حافلة بنتائجها العظيمة، وإن لم ينعم بها الشعب بعد، لكن كمية الانحرافات والخسارات الهائلة التي تفصل الحدث عن مآله، قد تغير من الآمال لتجعلها تهبط في هاوية القنوط، فإن استغلال الثورة هو أشنع ما يمكن أن تلقاه كل إنتفاضةٍ شعبيةٍ عفويةٍ إذ تنقصها القيادة الواعية، وقد تكون الثورة هي نفسها الواعدة بولادة قيادات جديدة لا يعرفها أحد، يصيرون من طبيعة المصطلح الذي ينصّ على عبارة متداولة من تاريخ الانتفاضات الأهلية الكبيرة، أنهم قيادات الميادين. وهؤلاء يفترضون قدرتهم المباشرة في إنجاز المواقف الحاسمة على عجلٍ ودون تبصّر بمختلف أحوال الظروف المحيطة بهم، فمن السهل أن تبرز المآزق وأن يسقط في يد هؤلاء القادة العابرين، فيتحركون بأساليب مرتجلة. في هذه الحالة يتدخل الأغراب ويأتون بالحلول شبه المستحيلة، ولكنهم قادرون على جعلها ممكنة لا تحتاج إلى أكثر من إرادة الإقدام. هكذا يقع الكفاح المسلّح في مشكلات الانتظام الذاتي وتبرز التناقضات الفردية، وربما تحدث أيضاً انقسامات أولية قد تتحوّل إلى جبهات متعارضة داخل النسق العملي الواحد. هذه التفاصيل في الحياة اليومية للممارسة الثورية قد لا يُعنى بها الفكر المراقب من بعيد، ومع ذلك فأنها تفاصيل لها تأثيرها الفعال في أقدار مصيرية عامة. إنها الحياة اليومية للممارسة الثورية وهي لا يمكن أن تُحصر في أبواب مجردة، وأن تصنف تحت عناوين شاملة، لكنها قد تنوب أحياناً في تأثيرها عن مخططاتٍ أكبر منها، فتحرّفها أو تشوّهها، وتصل بها إلى ما يُشبه الكوارث.

إن دخول الثورة في مرحلة العَسْكَرة الشاملة يحرّمها من مزايا هائلة كانت قد اكتسبتها خلال مرحلتها السلمية السابقة؛ وأولها تلك الروح الديمقراطية التي كانت تسود أوساط الشبيبة الثائرة وما يتبعها من شعورٍ ذاتي بالالتزام الطوعي لدى الأفراد، بحيث يشعر الشاب أنه قائدُ نفسه أولاً، ولذلك فإن أسوأ ما يجنيه التحوّل العسكري من الانتفاضات السلمية هو فقدانها لعقلها الفردي إلى جانب العقل الجماعي الذي يقودها، فالعَسْكَرة حين تفرض انتظاماً عمودياً قد ترفع عن الأفراد شعور المسؤولية المباشرة وتجعلهم يلقون بالمسؤولية كلها على عاتق قياداتهم. مقابل ذلك التواكل الذاتي الذي يجعل القادة مطلقي الأيدي في اتخاذ القرارات بناءً على تصوراتهم الذاتية، فقد يزجون بالعمل الثوري في هاويات لا يدرون بها إلا وهم في قعرها، هذا لا يعني أن الثورة السلمية وحدَها يمكنها أن تحقق الانتصارات المطلوبة منها خاصةً أمام عدو شرس نادرٍ في وحشيته القاتلة. فليس من سبيل أمام الثائر المسالم سوى أن يحتمي بسلاح قد يتأبَّاه في ظروف أكثر مدنية. ههنا أرباب القمع لا يسمحون للآخرين إلا بالخضوع أو الاستسلام للموت، فلقد تحوّلت الثورة السورية إلى حروب غاراتٍ ومواقع آنية متحركة. إنها حروب الشوارع ما بين قوى غير متكافئة لا تحقق غاياتٍ مستقرة وقد تعود على سكان الأحياء بالخسارات الكبرى، وأولها ضياع حياتهم اليومية وتشريد أفرادهم، وتحويل معيشة المنطقة إلى أشبه بجحيم، كما حَدَثَ لأحياء حمص وسواها من المدن السورية التي يجري تدميرها كما لو كان هناك مخططٌ منتظم هادف إلى القضاء على حضارة البلاد، فأيُّ نصر ينتظره مقاتلون قد وهبوا أعمارهم للموت، ولكن دون أية آمال في حياةٍ أفضل سليمة ومعافاة، قد ينتظرها شعبٌ ضحّى بأمنه ومستقبله دون مقابل.

ينبغي الاعتراف بعبثية هذا النوع من القتال، وأن تكون لنا الجرأة حقاً في أن نصرخ بأصواتنا: أن كُفوا عن هذا المصير الدامي الذي لن يخرج فيه أحدٌ مدعياً لأي نصر حاسم.

غير أن صرخة الاحتجاج لم تعد تفيد في هذه اللحظة الحرجة من تطور الحدث السوري، حيثما أصبحت الأمور تسير جميعها نحو كارثة شبه عامة، إن لم تتدخل إرادةٌ واعية من قبل هذه الكتلة الكبيرة من شعب سورية المسماة بالطرف الصامد أو الساكت، فليس ثمة آمال واضحة بقدرة ثوارنا الشباب على الإمساك مجدداً بمصير هذا المركب الكبير الذي أُلقي به في صخب الموج الهائل، ومع ذلك تنعقد الأبصار حول مصير حلب الشهباء، هذه المدينة العربية السورية العريقة في كل شيء يُنسب إلى مدنيةٍ تراثية ومعاصرة متجددة. فهل حقاً يمكن للثورة أن تحرر هذه المدينة من سطوة جيشٍ هائل، هو جيشُ دولةٍ لا يمكن غض البصر عن قوته ومقدرته. فالتحرير الحقيقي لا يكون إلا مقترناً بسلطةٍ شعبية قادرة على ضبط أمور مدينة كبيرة. فالتحرير من قبضة الجيش سيؤدي إلى إعادة احتلال آخر من قبل الميليشيات الفاقدة لوحدة الرأي والتنظيم، والارتباطات الخفية المتعددة ما وراء ظهورها، لكن المعركة مستمرة ولا يبدو أن هناك ثمة مَن سوف يوقفها عند حدها، وهذا هو الجانب القدري المظلم الذي تقع فيه أحياناً الشعوب من دون وعي وإرادة، حيثما يصبح الحدث وحده هو قائد نفسه، والحدث اليوم هو ملْك هذا الشارع المضطرب. أما تلك الأطراف، سواء الإقليمية أو الدولية فإنها تدور في حلقات مفرغة باحثة عما تسميها من الحلول الصعبة، وهي في الحقيقة تعرف أن الوقائع تسبقها دائماً، إنه مسلسل العنف وحده. له شركاء كثيرون ظاهرون ومتوارون؛ ومن المؤسف القول أن العنف وحدَه هو الذي صار الحرّ الوحيد الفاعل.

هؤلاء الأطراف الخارجيون، من عرب وأجانب، قد يتشاركون في المواقف التي لا تعلن إلا عن الحيرة والتردد والعجز عن فهم سليم لمجرى الأحداث وبالتالي في محاولة بحثٍ عن خطط رشيدة قادرة على وضع حدٍّ لقتال لا حدود لأهواله وفظائعه المرتكبة يومياً في حق البشر والحجر معاً.

قانون العنف هو سيّد المعركة حالياً، وينبغي الإقرار بسطوته الشاملة المريعة، أما الآخرون فهم إما متفرجون أو عاملون على المشاركة في مضاعفاته عن إرادة أو بدونها. فالهدف الأعظم، إن تبقّى ثمة أهداف في هذه المرحلة ليس في تحقيق النصر لأحد العاجزين عن التأمل بأسبابه العملية. النصر الحقيقي اليوم هو وقف العنف، وإذا كان ثمة معنى لتدّخل عربي أو دولي فهو برهان سعيه الحثيث في ابتكار ثمة هدنة بين المتقاتلين وأخصامهم. فلم يعد الوقت هو لتقاذف المسؤوليات والتهرّب من مواجهة كارثة هائلة تتجاوز كل مساحة مادية ومعنوية متصورة، ومعظم الأطراف العربية تُدرك حقاً أن النار لن تكون محصورة هذه المرة في مدينة أو أكثر، بل ضمن القطر كله وما يتعداه إلى جواره. ذلك أن قانون العنف الذي تخطّى عبر أهوال الشهور الماضية كلَّ مقاييس الفظاعات، لم يعد يمكن تصوره أنه سيكون وسيلة لأية نتائج إيجابية تصبّ في صالح أحد الأطراف المتنازعة أسوأ ما يُصيب الثورات العاجزة عن بلوغ أهدافها الأولية هو الوقوع في حال الاستنزاف والاستنقاع، مما يخلق جواً مناسباً لأن ترتدّ إليها مختلف التوجهات المشبوهة. وقد طال الوقت الدامي والرهيب بالنسبة لهؤلاء الشبيبة البواسل الذي يُزَج بهم في مآزق متوالية لا يلوح لها منفذٌ واضح في وقت قريب. فالنظام هو المستفيد الأول من هذا التبدّد والتمدّد القاتل لثورة تكاد تصبح معلّقة في الفراغ، باحثة عن ذاتها في جبهات مدينية هنا أو هناك.

أعداء سورية الحقيقيون هم الذين ينتهزون فرصة تحوّل الكفاح السلمي إلى مسلسل من وقائع التقاتل العبثي، فالخطر يتعدى هزيمة طرفٍ لكي يصبح هزيمةً للبلد جمعاء، وهذا هو المصير المريع الذي تُدفع نحوه أحداثُ سورية، فقد يتخيل أي عقلٍ خبيث أن قابلية هذا الوضع يمكن أن تساعد أي مخطط لتدمير كيان الدولة، وردّ المجتمع إلى أسوأ أوضاعه. فليس مخطط التقسيم بعيداً عن التصوّر في هذه المرحلة، وقد لا يحدث بالشكل الذي تريده هذه الفئة أو تلك، لكنه سيمرّ بمنعطفات من مختلف أشكال التفتيت والتجزئة وخلق الاضطرابات والتصارع العقيم بين مكونات المجتمع. فلن تكون هناك دويلات لهذا الدين أو لهذا العرق قريباً، ولكن على الطريق نحو هذا الهدف اللئيم سوف تحمّ أكبر مصائب التشتت والتخلّف التي يواجهها الجميع. ولذلك لا بدّ من اختراع الحل وفرضه بأية وسيلة كانت، فإذا كان التدخل العسكري الدولي ممتنعاً حتى اليوم عن التنفيذ لأسباب لم تعد خافية، فلا أقل من أن يستخدم العالم المتمدن نفوذه المعنوي والدبلوماسي بصورةٍ حاسمة ومطلقة لإجبار عتاة النظام السوري على الكَفِّ عن حروبهم الوحشية ضد شعبهم. فالعنف الذي أطلقه النظام مستعرضاً كل الأهوال أمام رأي عام دولي، لم يكن له أن يفوز بحريته من دون تراخٍٍ غير مفهوم من قِبل أصحاب هذا الرأي العام الدولي، كأنما تريد الدول الكبرى أن يَستعرض العنف أقصى ما لديه من وسائل التدمير الشامل، جاعلاً من سورية مسرحاً نموذجياً لامتهان كرامة الإنسان وسحقه، هذه اللاأخلاقية الكونية ستكون هي المسؤولة الأولى عن تحرّر القتلة من هاجس الخوف أو العقاب. مع العلم أنه يمكن حقاً لقوى عالمية مختلفة أن تمارس هذه المرة ما يُسمّى التدخل السلمي. فإن له قوة لم تجرّب بما فيه الكفاية بعْدُ. كل ما يحتاجه هو قرارٌ يتخذه كبار العالم. فحين يعلن العالم إرادة واحدة آمرةً القَتَلة بالتوقف الفوري لا بدّ أن تحدث ثمة استجابات ما. وقد يكون لها مفاعيل مختلفة، أولها ولا شك هو إحكام العزلة المطلقة على أهل النظام بتدابير فعلية حقيقية وليست سطحية، بدءاً من مقاطعة عربية أولاً شاملة وكاملة. فمن سيوقف القتل المجاني ستكون هذه المرة هي قوة السلام نفسه التي من المؤسف أن يمتنع كبار العالم وصغاره حتى اليوم عن تجربتها.

ألم يحن الوقت للكفِّ عن التحجج بتعطيل الفيتو الروسي للاجماع الدولي، فإذا كان المطلوب هو تحقيق الشرعية لأية تدابير حتى ولو كانت سلمية، فقد منحت الجمعية العمومية أكبر إجماع ممكن من رأي عام للأمم وليس للدول فقط، حول إدانة مقتلات النظام السوري؛ فهي شرعية كافية حقاً لتجربة التدخل السلمي عن طريق إنشاء فرق من البوليس الدولي الذي يمكنه على الأقل أن يحاصر القتلة في معاقلهم، وأن يطلق حرية الحراك الشعبي للقوى السلمية المناضلة، فلماذا لا يُتخذ مثل هذا القرار الذي يعرفه فقهاء القانون في كل مكانٍ، كونه أساساً لأية قرارات دولية ملزمة، فإن تهديد النظام بوضعه خارج هذه الشرعية الدولية سوف يجعله عاجزاً عن استثمار ما تبقّى لديه من الوسائل الوحشية المطلقة. في النهاية سوف تنتصر قضية الثورة بطرقها السلمية الفعالة وسوف يخيب آمال أعدائها بأن تسقط في فخ العنف الأعمى، ولن يفشل الربيع العربي في مباراته الإجبارية مع مؤمرات الفوضى الهدّامة، فالربيع لن يتنازل عن رهانه كونه واعداً بالنهضة الخلّاقة وحدَها..

أخيراً، حتى لا تتابعُ الثورةُ تساقطها في مهالك المقتلات المتبادلة ما بين أفرقائها وأعدائها، يقع الواجب الأكبر على العقلية الدولية التي آن لها أن تحسمَ أمرَها. فحين تستأنف بعثة فريق مراقبين مع رئيسها الجديد (الأخضر الإبراهيمي أو سواه) لن يكون المنتظر هو متابعة طريقها القديم المسدود، لا بدّ من تغيير طبيعة المهمة عينها، وليس إبدال رؤسائها فقط، فتتطور من مرحلة الرقابة السلبية إلى وضع التدخل الفعال القانوني ضد أي طرف يشرع في العدوان. لا مجال بعد اليوم لسلمٍ أو لهدنةٍ من دون حمايةٍ فعليةٍ. هذه هي بداية الأسلوب الدولي الجديد إن كان ثمة نوايا صحيحة وسليمة قادرة على الانتصار والانحياز إلى جانب الحق في يومٍ من الأيام..

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى