الربيع العربي وحدود المراجعة النقدية المطلوبة/ حسن شامي
هناك حالة إحباط مشوب بالمرارة تلف المنطقة وتعسّ في نفوس أبنائها. وفوق ذلك هناك شعور بأن مصائر كيانات ودول وجماعات باتت بلا وجهة وبلا أفق. لا أحد يحب الوقوف في نفق مظلم، ولا أحد يعوّل على تزجية الحياة على حافة الهاوية. هذا ما يطغى على مشاعر وأحاسيس الغالبية العظمى من سكان المنطقة، بعد نيف وخمس سنوات من التخبط والدمار والمواجهات والنزوح والمجازر.
في هذا المناخ السوداوي العابق بكافة أشكال التأسّف والتحسّر، يستشعر كثيرون من مثقفي وناشطي البيئات المدنية والوطنية ضرورة القيام بمراجعة نقدية لما آلت إليه تشكيلة متنوعة من تجارب حراكية واحتجاجية عربية. على أن الشعور بهذه الحاجة لا يعدم فرص الوقوع في معضلة أخلاقية ثقيلة الوطأة على البناء المعنوي والنفسي، بل حتى الوجودي لأصحاب الدعوة إلى المراجعة النقدية المتمسكة بأكبر قدر ممكن من النزاهة والاستقلالية في الرأي والقراءة.
ليس مستغرباً أن تأخذ تعبيرات الإحباط العام صوراً وتمثيلات مختلفة بل حتى متضاربة. كذلك لا نستبعد أن يتحول التعبير عن الإحباط والمرارة إلى صيغة للتحسر على أمل ضائع وعلى فوات فرصة تاريخية للخلاص من سلطات جائرة. والتحسر هو مسرح الكبرياء الجريح والوعي الشقي والعزاء الذاتي. التحسر هو صحراء الروح. تكمن المعضلة في صعوبة الموازنة بين خوفين يلابسان المراجعة المطلوبة. فهناك خوف من أن تظهر المراجعة في صورة ندم على رهانات خاطئة ومتسرعة وإن كانت شرعية من الناحية الأخلاقية، مما يجعل الندم ضرباً من التوبة التي قد يفسرها البعض على أنها خيانة أو تخلّ طوعي عن الحوافز الشرعية للانتفاض والاحتجاج وانتزاع الحق في المشاركة والفعل السياسيين. ويخشى في هذه الحالة أن يظهر ذلك بمثابة إقرار بهزيمة وانكسار وبانتصار سلطة فئوية ستزعم بأنها كانت محقةً في إحكام قبضتها الأمنية والزبائنية على المجتمع وفي تمثيلها للسيادة الوطنية وإن على حساب تطلعات القوى الحية وأصحاب الكفاءات المستبعدين قسراً.
الخوف الثاني يتعلق، على العكس، بأن تكون المراجعة ضرباً من الوعظ الأخلاقي المحض الذي يبقي على خطوط الانقسام المتورمة والمتزايدة التجذر إلى حد الثبات على نقطة اللاعودة. في هذه الحالة سيكون الوعظ صيحة في الصحراء وبلا إمكان الترجمة المقبولة في صيغة حقوقية وسياسية تحفظ وحدة الكيان الوطني، من دون التضحية بأي مكون من مكوناته. وسيكون الوعظ إمعاناً في تبليط جهنم بالنوايا الحسنة.
عندما انطلقت شرارة «الربيع» العربي من تونس وانتقلت إلى مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، شعر كثيرون بأن المنطقة العربية برمتها دخلت منعطفا تاريخياً كبيراً. وبدا لمتفائلين كثر أن المنطقة المصابة بلعنة التسلط والجمود، منذ عقود ما بعد الاستقلال الوطني، شرعت في الاستيقاظ على نهضة ثانية من شأنها أن تستأنف ببصيرة نقدية وثبات النهضة الفكرية والثقافية التي دشنتها قبل قرن ونصف القرن نخبة ثقافية متنوعة المشارب والتطلعات ومتفاوتة في تشخيصاتها لآليات وقواعد الدخول في العصر الحديث في زمن الليبرالية الملتبسة. كان من الطبيعي على أي حال أن نستبشر خيراً بالنظر إلى توثبات قطاعات اجتماعية عريضة وانتفاضها ضد منظومات حكم تسلطي وفئوي خانق للحريات ولمبادئ العدل الاجتماعي على كل المستويات. مصادرة النخب السلطوية لجملة الحقل السياسي أنشأت بالتالي انطباعاً بضعف الاستقرار الوطني، بسبب افتقاده قواعد الحكم الرشيد. لم يكن في رصيد هذه النخب السلطوية الحاكمة سوى الاستقرار الأمني ومستلزمات تسويقه داخلياً وإقليمياً ودولياً لتثبيت صورة الحفاظ على سيادة وطنية تقوم على تسويات ومناورات مع الخارج، أكثر مما تقوم على تعزيز قوى المجتمع وتحرير طاقاته. وكان من الصعب، بالنظر إلى قوة الاندفاعة الاحتجاجية غير المسبوقة، أن يتفطن معظم المتحمسين والمتعاطفين مع الحراك إلى أن لغة الخطاب السياسي وشعاراته الأساسية كانت تحجب تذرراً في التصورات والمضامين الفعلية لهذه الشعارات.
لنقل إن اللغة الشعاراتية للحراك كانت في نظر وتصور قوى ناشطة وفاعلة أشبه بواجهة لغوية لائقة، فيما كانت المدلولات تقيم في مرجعيات دلالية تضرب بجذورها في ثقافات اجتماعية ما دون، وأحياناً ما فوق، الوطنية الجامعة والمشتركة. إن كلمات مثل «الحرية» و «الشعب» والدولة المدنية لم تكن تحمل المعنى ذاته لدى الناطقين بهذه العبارات. فالحرية استخدمت من قبل فئات ومجموعات مغلقة كواجهة للاستيلاء وتحقيق الغلبة على الخصم المعلن والخصوم المضمرين على حد سواء. واستخدمت كلمة «الشعب»، ولا تزال تستخدم، كواجهة أو كعرف خطابي لتوسيع رقعة نفوذ عصبيات مغلقة من كل نوع، قبلية ومذهبية وجهوية وعائلية.
نرجح أن المراجعة النقدية المطلوبة لن يكون في مقدورها، بالنظر إلى اضطراب السياق وحدّة الاصطفافات وغلبة الأهواء الثأرية، أن تحسم الجدل الذي لاحت تباشيره هنا وهناك حول المسؤولية عن انسداد الأفق الذي وعد به الحراك والانتفاض. في مقدم هذا الجدل يأتي السؤال عمن يتحمل مسؤولية وصول الأمور إلى ما وصلت إليه من التفتت والعنف العبثي الأعمى وادعاء حرب الكل ضد الكل، فيما تتلطى خلف هذا الادعاء طموحات وثارات ضيقة ومصالح شخصية. والحق أنه من الصعب حسم السجال بين من يزعم أن النظام السلطوي هو وحده من أقفل الدائرة بالاستناد إلى حسابات ومناورات مكيافيلية وسينيكية.
ففي المقابل، هناك من يرى أن الحراك أضاع وجهته، بل حتى شرعيته، بسبب بروز قوى متسلقة وانتهازية ومتزمتة حرفت الانتفاضة عن مجراها الأصلي. وههنا تتفاوت التقديرات بين من يلقي المسؤولية على كل تشكيلات «الإسلام السياسي» المترجح بين شق إخواني ماكر ومراوغ وسلفيات تقليدية وجهادية لا تخلو من التزاحم والتنافس واستخدام العنف التكفيري في نزاعاتها.
من مفارقات الأمور أن أقل المراقبين فطنةً كان يعلم أن القوى المرشحة لملء مساحات الاحتجاج قبل اندلاع الربيع العربي بسنوات إنما هي قوى الإسلام السياسي بتنويعاته الكثيرة. ولا حاجة إلى التذكير بتجربة الجزائر في التسعينات وبتجارب أخرى لصراعات أقل دموية في مصر وتونس وغيرهما، من دون أن تكون السجون في هذه البلدان أقل امتلاءً بالمعتقلين والسجناء السياسيين. لنقل إن المراجعة المطلوبة تبدأ بتجنب الأحكام الجاهزة والوصفات المسبقة.
الحياة