صفحات العالم

الربيع العربي وطبقات التاريخ/ حسن شامي

من المعلوم ربما، أن الأدبيات الفلسفية والسياسية الليبرالية، ومن ثم اليسارية والماركسية، نجحت منذ القرن السابع عشر الأوروبي في تعميم صورة «طوباوية» عن وظيفة التاريخ وغائيّته. هذه الصورة حملت عموماً، وفي صياغات مختلفة، على معنى التقدم. التاريخ هو سيرورة أجسام اجتماعية ناشطة وصاعدة نحو هدف أرقى وأعلى. علم التاريخ هو، في هذه الحالة، معرفة قوانين وشروط انضواء هذه الأجسام في سردية سياسية تزامنت مع نشوء الأفكار الحديثة عن الوطن والأمة والشعب والدولة القومية.

ارتضت الماركسية والأيديولوجيات اليسارية عموماً، نقطة الانطلاق الليبرالية، لكنها شككت إلى حد القطيعة والنقد الجذري، في صلاحية التحديدات الليبرالية لقوانين الحراك الاجتماعي والشروط الفعلية لتبلوره ولوجهته. فعلى أرضية العقلانية المترافقة مع تطورات واكتشافات البحوث العلمية، وعلى أرضية تشكّل الذات الفاعلة والمسؤولة على الصعيدين الفردي والوطني، نشأت مقاربات لملامسة الأعماق والقوانين الخفية التي حجبتها سطوح الليبرالية اللامعة والملساء. هناك ثلاثة أسماء وعناوين تلخّص في أوروبا والغرب فلسفات الأعماق هذه: ماركس ونيتشه وفرويد.

لا نريد من هذا العرض تقديم ملخّص عمّا آلت إليه فكرة التاريخ وصورته، مع تشعّبات وتطويرات وتقلّبات فلسفات الأعماق. سنكتفي بالتشديد على التحوّل الكبير في صورة التاريخ، الذي لم يعد مقصده تقديم رواية أو سردية عن تشكّل الدولة ـ الأمة أو المجتمع أو البناء الوطني، بل معالجة قضايا ومشكلات مقيمة في صلب التحولات التاريخية. مدرسة الحوليات الفرنسية مثلاً، وهي من كبرى مدارس تجديد المعرفة التاريخية، توقّفت عن اعتبار الحدث السياسي أو الحربي محور التاريخ، وصبّت اهتمامها على دراسة بنية المشكلة التي تتلجلج في الحدث. هناك من ذهب عن حق أبعد من ذلك. فرأى أن التاريخ لا يحمل بالضرورة معنى التقدم. فقد يكون مسرح صراعات تراجيدية بين قوى تتطلّع إلى الانتصار والغلبة. عندما تحدث فوكوياما، بتفاؤل دعوي متهوّر، عن نهاية التاريخ كان يعتقد، قبل أن يتراجع عن فكرته هذه، أن نهاية الحرب الباردة وانهيار الشيوعية ومنظومات مقاومة السيطرة، أفضت إلى استقرار معنى التقدّم في الرأسمالية الليبرالية المنتصرة وارتسامها أفقاً واحداً أحداً لسائر المجتمعات البشرية. أهمية مقولة فوكوياما تكمن في مواكبتها وتنظيرها لنوع من العودة إلى السرديات القومية العريضة والمبسّطة.

فنحن نشهد بالفعل، منذ ثلاثة عقود تقريباً، وعلى إيقاع عولمة موغلة في التجريد والتبسيط وازدهار ثقافة الصورة والنجومية في كل الميادين وروايات النجاح الفردي، صحوة لمقولات تدور على الهويات القومية المهدّدة بالاندثار بسبب الهجرة والاختلاط وفقدان السيادة القومية. ولا يقتصر ترويج هذه المقولات التحريضية والدعوية على اليمين المتطرف، إذ يلغ فيها زعماء وناشطون في اليمين التقليدي وغيره. وفي هذا السياق، ازدهرت الخطابات عن الدور الإيجابي للتجربة الكولونيالية، وعن وجاهة تثبيت تراتبيات تاريخية وثقافية. وههنا تتخصّب أرض المقولات والدعوات العنصرية.

فكرة التقدّم كما تلقفها النهضويون والتنويريون في العالم العربي والإسلامي، لم تكن من دون التباسات وتلفيقات يمكن تفهّمها بالنظر إلى شروط ومواصفات العلاقة المضطربة بين التوسع الاستعماري الغربي وعالم إسلامي وعثماني متزايد القلق والتآكل. لنقل إن هذه الالتباسات انضوت كلّها في أيديولوجيات تحديثية ترقى إلى عصر محمد علي باشا، لكنها اكتسبت شرعيات جديدة في حقبة الاستقلال التي أعقبت الحرب الثانية. والتحديث غير الحداثة. ها نحن اليوم نشهد تصدّع الأبنية الوطنية الموروثة على حدّ سواء عن تلفيقات أيديولوجيات التحديث في نسختها الليبرالية المزعومة، وفي نسختها «التقدمية» الاشتراكية المزعومة أيضاً. فبعد نيّف وأربع سنوات حافلة بالتشظّي والمآسي وفنون القتل والخراب والدمار، تكشّف الربيع العربي عن مسرحة عبثية لصراعات ونزاعات يصعب توضيبها في سياق أو سيرورة، واعدين بمكافأة معقولة سوى الشماتة بالخصم والتشفّي منه وبه. فقد آل رفع المكبس الأمني والسلطوي المديد عن مجتمعات مركبة وموروثة عن نظام الملل العثماني إلى صحوة الهويات الفرعية ما دون الوطنية، القبلية والمذهبية والطائفية والعائلية المحلية، وخروجها بضراوة مضاعفة من قيعان هامشية قسرية. هذه القيعان التي حجبتها النخب الأمنية والاقتصادية المتسلّطة، تقذف اليوم حمم أزمنة اجتماعية مختلفة.

فالتاريخ في هذه المنطقة، خصوصاً في المشرق العثماني، أشبه بطبقات جيولوجية تطمس الواحدة الأخرى، وتطمرها طمراً تحسبه نهائياً إلى أن يتبيّن أن هذا الطمر ليس سوى قشرة زجاجية تنتظر لحظة التكسّر.

نقول هذا وفي ذهننا الحالة السورية التي باتت نموذجية على هذا الصعيد. فعلاوة على اقتصاد الحرب وازدهار أمرائها من كل الأحجام، تبدو الأجسام والفصائل المقاتلة أشبه بكسور مجتمع محطّم. طموح هذه القوى الفرعية إلى تثبيت سلطتها وبسطها لا تكفيه القوة العارية، فهو يحتاج إلى شرعية ما. وهذا ما يدفع أصحابها، خصوصاً في أوساط السلفيات المقاتلة والمتنافسة، إلى ربط مكانتها وسلطتها المستجدة بصور وتمثيلات مستمدة من أدبيات فقهية، وترطن بلغة السياسات الشرعية المألوفة في أدبيات فقهاء الخلافيات والدعوات الجهادية. وتحتلّ كلمة «الأمة» مكانة مركزية في لغة هؤلاء، وإن بطريقة مطابقة لفكرة «الجماعة». وهم يعوّلون على هذا الاستخدام لتسويق صورة عن وحدانية مشروعهم، واستناده إلى مرجعية راسخة. مع ذلك، يظهر أن الربيع السوري أسفر عن صعود فاعلين اثنين لا ينتميان إلى الطبقة نفسها من طبقات التاريخية السورية. الأول، هو نشوء هوية طائفية سنية بطريقة غير معهودة في البيئة التاريخية للكتلة السنية العريضة التي شكلت سوسيولوجياً العمود الفقري للوطنية السورية. ولا يكفي تبرير ذلك بطائفية النظام. فهذا أمر خبرناه في لبنان في بداية الحرب الأهلية، عبر الحديث التبسيطي والدعوي عن المارونية السياسية وامتيازاتها. الفاعل الثاني، هو تعاظم الدور الذي يلعبه الأكراد وتحوّلهم تدريجياً إلى قوة من شأنها أن تزيد تعقيد الأمور. فهم يضعون الدور التركي ووزنه المعروف والثقيل على محك اختبار صعب، ليس داخل تركيا فحسب بل كذلك في ما يخص روابط تركيا بالإدارة الأميركية التي تساند الأكراد كما يظهر. ويبدو أن المسؤولين والقادة الكرد يحرصون أكثر من غيرهم على استخدام صيغة الجمع في توصيفهم مكوّنات البلد الواحد. فهم يتحدثون عن «شعوب» المنطقة حتى في حالة سورية. لكنهم يجزمون بأن الانفصال خط أحمر.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى