صفحات سوريةطيب تيزيني

“الربيع العربي” ومصالح الخارج


د. طيب تيزيني

تتعاظم الإشكالية السورية تعقيداً واضطراباً ومساحة مع استمرارها منذ عام ونصف العام تقريباً. وفي الآن نفسه تطبخ وسائل الإعلام يومياً أخباراً من هنا وهناك تتعلق بمشاريع يعلنها أصحابها بمثابتها مداخل مناسبة أكثر من غيرها للإجابة عن تلك الإشكالية. أما ما يلاحظه المدقق والرأي العام معه، فهو أن حلاً يمكن أن يوقف العنف والدماء، يبتعد أكثر، بل إن ما يُعتبر المدخل إلى ذلك الحل، يبتعد أكثر. وفي هذا وذاك، أخفقت المبادرتان العربية والأممية، وراح جمع من رؤساء الدول والسياسيين والناشطين في الشأن العام يؤكدون فشل تينك المبادرتين علناً، متسائلين عما إذا كانت هنالك احتمالات مبادرة أخرى ثالثة. وهكذا انقضى عام ونصف العام على الانتفاضة (الثورة) السورية، دونما ظهور معالم تبشّر بـ”الخلاص”.

وإذا كانت قراءة الأحداث السورية من خارجها لا توحي باقتراب حل أو آخر لها، إلا أن قراءة من داخلها تسمح -على الأقل بنسبة ليست ضئيلة- باكتشاف عناصر ذات حضور ملحوظ -بالخلوص إلى أن “الداخل” السوري خصوصاً في الحالة التي نحن بصددها الآن، يفصح عن عوامل تدخل في حظيرة الانتصار. بل إننا ها هنا نضع يدنا على عامل كبير الدلالة، هو أن إحجام الخارج (العربي والغربي خصوصاً) عن الفعل المتعاظم والضروري ضمن الحقل السوري، أفضى -أو ربما أفضى- إلى بروز الأهمية الحاسمة لهذا الحقل من داخله. وهنا، يتعين على الباحث الموضوعي أن يدقق في الأهمية الكبرى لدور الشباب ومجموعات أخرى حاسمة من الحامل الاجتماعي والسياثقافي للانتفاضة المذكورة.

إذ في هذا المفصل من المسألة يبرز عامل ذو أهمية عظمى، هو الشجاعة غير المسبوقة، التي يبديها هؤلاء في مواجهة الطواغيت، التي تحرِّك قانون الاستبداد الرباعي: السلطة الأمنية المخابراتية، والأموال الطائلة التي سلبتها هذه الأخيرة من كل طبقات الشعب السوري وفئاته، والإعلام الزائف، إضافة إلى مَنْ قام بدور طوابير تكريس ذلك كله ممثلة بالأحزاب والنقابات الانتهازية، التي اشتراها النظام أو صنعها. فالشجاعة البطولية التي يبديها كل من تضرر من ذلك القانون، أمر فائق الدلالة والأهمية، ولعلنا نستنتج ذلك في ضوء دراسة تاريخ الثورات والانتفاضات في التاريخ، الحديث خصوصاً، منذ الثورة الفرنسية في عام 1798 وحتى الآن.

ذلك كله وقف في مواجهة المواقف الرجراجة وغير الحاسمة أو الحازمة، التي ما يزال الغرب والعالم العربي يأخذانها من الحدث السوري الكبير، ناهيك عن البلدان التي سلكت طريقاً مناهضاً معادياً لهذا الحدث، كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا والصين وفنزويلا وغيرها. فإذا كان الخارج المذكور قد حسم موقفه في صيغة التضامن مع الشعب السوري، إلا أن ذلك لم يرق إلى مستوى المشارك في مواجهة الأذى الأخطبوطي، الذي يتلقفه هذا الشعب. فمصالح هؤلاء لا يمكن أن تمرّ مروراً سريعاً على وجود سوريا، فالجميع يجد نفسه في محور الفعل، على نحو ما، باتجاه إنهاء المآسي الكبرى التي يعيشها الشعب السوري، إلا أن المدى الذي تأخذه هذه المصالح يتوقف عندما تتضارب مع مصالح الآخرين. إنها لعبة الأمم بقضّها وقضيضها، ويتضح هذا أكثر، حين نكتشف دور إسرائيل في لعبة الأمم هذه، وهو دور يكاد يكون مرجحاً في حالات معينة.

ومع ذلك، ينمو الوعي التاريخي والمسؤولية الأخلاقية بكيفية خلاقة لدى المجموعات والفئات المتضامنة ولكن بحذر، والفاعلة ولكن عبر حساب ما جاء وما لم يجئ. إنها -إذن وفي عموم الموقف- حالة قد تدخل في حقل الأحداث التي لم نشاهدها من قبل، وهو أمر محتمل ومرجَّح.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى