الربيع العربي ونظرية المؤامرة: حول كتاب المازري حداد
هاشم صالح
ربما أحدث هذا الكتاب ضجة في الأوساط العربية والفرنسية. ربما انفجر في وجوهنا كقنبلة موقوتة وغيّر الصورة المثالية التي نشكلها عن الربيع العربي. فقبل ظهوره في المكتبات الباريسية أول ديسمبر راحت مواقع الانترنيت تنشر صفحات مطولة منه وتجري المقابلات مع صاحبه. وعلى أي حال فإنه يمشي عكس التيار، وقد قدم له سمير أمين. وسواء اتفقنا معه أم اختلفنا فإن أطروحاته تستحق العرض والنقاش والأخذ والردّ.. وإلا ما معنى النقاش الديمقراطي؟ أنت لا تتناقش فقط مع من يتفق معك! لكن من هو مازري حداد مؤلف هذا الكتاب الإشكالي؟انه فيلسوف تونسي مقيم في باريس ومتخرج من جامعاتها وأستاذ فيها بعد تخرجه. وهو أحد المسلمين القلائل المتخصصين في اللاهوت المسيحي وليس فقط الإسلامي. عنوان كتابه هو التالي: “الوجه المخفي للثورة التونسية، الأصولية والغرب: تحالف محفوف بالمخاطر الكبرى”. ويعتبر مازري حداد مثقفا غير نمطيّ قياسا إلى بقية المثقفين العرب أو غير امتثالي. إنه حائز على شهادة الدكتوراه من السوربون في مجال الفلسفة الأخلاقية والسياسية. إنه مسلم ولكنه حارب دائما التيارات الإسلاموية أو الأصولية. نقول ذلك رغم أنه دافع دائما عن مناضليهم الحركيين عندما قمعهم بن علي في تونس. وكان أحد أوائل المقاومين لبن علي عندما اعتلى عرش السلطة عام 1987. ولذا نفى نفسه إلى باريس لمدة اثني عشر عاما. ثم تصالح مع النظام والتحق به عام 2002 مفضلا إصلاحية الدولة التدريجية على التحالف مع الإسلاميين على عكس ما فعله تقدميون آخرون كالمنصف المرزوقي مثلا. وفي عام 2009 عينوه سفيرا لتونس في اليونسكو. ولكنه استقال بكل شجاعة من هذا المنصب عندما اندلعت ثورة الياسمين.
ما هي الأطروحة الأساسية للكتاب؟ يرى المؤلف أن انتفاضات الربيع العربي التي قدموها لنا على أساس أنها عفوية، طبيعية، ليست عفوية إلى الحد الذي يصورونه. فلديه وثائق تثبت أن الأجهزة السرية الأميركية ابتدأت منذ عام 2008 بتدريب الشباب العربي أو بعضهم على كيفية تفجير الثورات عن طريق الفيسبوك وبقية أجهزة المعلوماتية الحديثة. إضافة إلى البروباغندا الهائلة التي تمارسها قناة الجزيرة. يضاف إلى ذلك انه من المؤكد أن أوباما هو الذي ضغط على قادة الجيش لكي يتخلوا عن بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، وكان له ما أراد. من يستطيع أن يقاوم ضغوط زعيم الإمبراطورية العالمية؟ وبالتالي فهذا الربيع العربي تم التخطيط له بشكل مسبق ووقع الجميع في الفخ دون أن يدروا. بل إن تسمية الربيع العربي ليست عربية وإنما كان أول من استخدمها الإعلام الفرنسي والغربي عموما. ويرى مازري حداد ان هذا الربيع سوف يتحول إلى خريف بل وشتاء أصولي قارس.فالمستفيد الوحيد منه الذي سيقطف ثمرته هو الحركات الإسلاموية. وأخيرا يرى أن الغرب سيندم كثيرا على فعلته تلك إذ قبل التحالف مع الإخوان المسلمين. هذا باختصار شديد ملخص الأطروحة الذي يذكرنا بنظرية المؤامرة التي يتبناها محمد حسنين هيكل. لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه على مازري حداد وهيكل هو التالي: هل يمكن للمؤامرة أن تنجح لولا أن هناك عوامل مساعدة على نجاحها؟ للحقّ والأمانة ينبغي الاعتراف بأن المفكر التونسي لا ينكر إطلاقا وجود هذه العوامل الموضوعية. وبالتالي فرغم توكيده نظرية المؤامرة إلا انه يعترف بمشروعية الانتفاضات الثورية العربية. ففي رأيه أن حكم الاستبداد المخابراتي للحزب الواحد او حتى للعائلة الواحدة على الصعيد السياسي، والفساد والرشوة والمحسوبية على المستوى الاقتصادي، والبطالة الكثيفة الهائلة التي تصيب الشباب العربي من جهة ثالثة، كل ذلك يشكل عوامل موضوعية لانفجار الربيع العربي. وبالتالي فالأرضية كانت مهيأة تماما لذلك الانفجار. وأميركا رغم جبروتها لا تستطيع أن تخلق الأشياء من عدم. وهذا يعني أنه بمؤامرة أو دون مؤامرة كان الوضع ينتظر شرارة فقط لكي ينفجر. وهذا ما حصل عندما ضغطت الأجهزة الأميركية على الزر واندلعت شرارة الثورات. على هذا النحو تصبح نظرية المؤامرة مفهومة وتتخذ أطروحة المؤلف جدية ومعقولية. فالمؤامرة ضمن هذا التفسير لم تعد مؤامرة تقريبا وانما أصبحت عبارة عن استغلال ذكي لوضع جاهز للاستغلال.
الغرب يغير استراتيجيته تجاه الأصوليين العرب:
انعطاف بمعدل 180 درجة!
ثم يردف مازري حداد قائلا: على هذا النحو نفهم سر ذلك التحالف الغريب العجيب بين العواصم الغربية من جهة، وحركات الإسلام السياسي من جهة أخرى. ففي الماضي كان ممنوعا منعا باتا ان تتحدث مع أي قائد أصولي تونسي او غير تونسي في باريس مثلا. ويرى أوليفييه روا أحد كبار المطلعين على الموضوع أنه كان يستحيل علينا أن نشرب فنجان قهوة مع أي قائد من قادة حركة النهضة التونسية سواء كان الغنوشي أو سواه. أما الآن فأصبح الغنوشي يستقبل بكل سرور في أروقة وزارة الخارجية الفرنسية وتحت الثريات والأضواء اللامعة. كما يستقبل في واشنطن بكل حفاوة وترحيب تمهيدا لتدجينه وتطويعه كما يفعل الغرب عادة مع الذين لهم مستقبل او ثقل سياسي. وهذا ليس عيبا على الإطلاق. فالدنيا لا تسير أمورها إلا على هذا النحو. والمرور بمركز الامبراطورية العالمية إجباري لمن يريد أن يحتل مسؤولية عليا في بلاده.
هذا وقد أعطيت الأوامر للسفراء الغربيين في تونس والقاهرة وسواهما من العواصم لكي يستقبلوا قادة الإخوان المسلمين متى شاؤوا أو لكي يزوروهم في مكاتبهم ومقراتهم. وأصبحت العلاقة بين الطرفين أحلى من العسل! وسبحان مغير الأحوال..ولم يعد وزراء خارجية الغرب يحلفون إلا باسم الإخوان المسلمين. وأصبحوا يشيدون ليلا نهارا بمزايا “الإسلام المعتدل”.ووصل الأمر بآلان جوبيه إلى حد أنه قال لقادة الحركات الإسلامية الذين جمعهم في معهد العالم العربي بباريس: فاجئونا نفاجئكم! بمعنى: اعتدلوا أكثر فأكثر واستمعوا إلى وصايانا تجدون ما يسركم. سوف نتخلى عن الأنظمة فورا من أجل سواد عيونكم. وسوف تحكمون العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، مشرقا ومغربا.ماذا تريدون أكثر من ذلك؟
يرى مازري حداد أن هذا الموقف الجديد يعني حصول متغير جيوبوليتيكي أعظم بالقياس إلى كل المراحل السابقة. وسوف تترتب على ذلك انعكاسات كبرى لم نستوعب حجمها وضخامتها بعد. انه منعطف تاريخي بكل ما للكلمة من معنى. ثم يضيف قائلا: رغم هذه الوقاحة الغربية فإني مصر على القول بأن شباب تونس ومصر لم يصنعوا الثورة من أجل التوصل إلى “الديمقراطية الإسلامية”! والسؤال المطروح هو التالي: ما الذي دفع الغرب إلى اتخاذ هذا الموقف غير المتوقع وتغيير استراتيجيته 180 درجة؟ والجواب شيئان اثنان: البراغماتية السياسية ونزعة الجشع التجارية. من المعلوم أن الفلسفة الذرائعية البراغماتية التي بلورها ويليام جيمس تسيطر على العقلية الأميركية وربما الغربية ككل. وهي تمثل رد فعل على الفلسفة المثالية الأخلاقية الكانطية. ويمكن اختصارها بالعبارة الشهيرة التالية: الأفكار ليست صحيحة او خاطئة، وإنما هي مفيدة أو غير مفيدة، عملية أو غير عملية، فعالة أو غير فعالة. نقطة على السطر.. فإذا كان السياق التاريخي العربي الحالي يفرض علينا التعاون مع الإخوان المسلمين، إذا كانوا هم الذين يمثلون الثقل الشعبي، وإذا كانت مصلحتنا تقتضي ذلك فلم لا؟ صحيح أننا لا نحبهم ولكن المصلحة العملية تفرض ذلك. لا ريب في أن هذا الموقف مضاد لقناعاتنا أو لميولنا الطبيعية. ولكن لا ينبغي أن نكون مثاليين أكثر من اللزوم، ينبغي أن نكون براغماتيين. ولكن هذا موقف قصير النظر في رأي مازري حداد. انه يعبر عن جهل كامل بحقائق الإسلام، بل وعن احتقار عميق للمسلمين على عكس ما نظن. لماذا؟ لأن هذا الموقف ماهوي، ثقافوي، جوهراني: أي عنصري في نهاية المطاف. ينبغي العلم بأن الكليشيهات التي تقف خلف الإسلاموفوبيا، أي كره الإسلام، هي ذاتها التي تقف خلف الحب الظاهري للإسلام. فإذا كان الجنس البشري على اختلاف أعراقه ومذاهبه واحدا في نهاية المطاف، إذا كانت الحضارة هي عبارة عن مزيج من كل الثقافات، إذا كانت النزعة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان هي أشياء كونية، فلا مبرر لقول بأن هناك نمطا أعلى من الديمقراطية يناسب العالم الغربي المتحضر ونمطا آخر أدنى مستوى يناسب العالم العربي المتخلف. لا مبرر للقول بأنه ينبغي تعديل الديمقراطية الغربية لكي تتأقلم او تتلاءم مع الخصوصية الدينية والثقافية للعالم الإسلامي. نقول ذلك اللهم إلا إذا كان الغرب يتبع وصايا برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون اللذين يقولان بأنه لا توجد حضارة بشرية مشتركة وإنما حضارات مختلفة. وبسبب من اختلافها والتفاوتات الأنطولوجية والأخلاقية الكائنة بينها فإنها مرشحة للصدام والعراك عاجلا أو آجلا.
للمسلمين “ديمقراطيتهم” ولنا ديمقراطيتنا!
وبالتالي فالمنطق الغربي يقول ما يلي: إذا كان المسلمون في أغلبيتهم غير مستنيرين دينيا، إذا كانوا يريدون الإخوان المسلمين والسلفيين في السلطة، فبأي حق نمنعهم من ذلك؟ باسم الديمقراطية المقدسة وباسم الاعتراف بالخصوصية الثقافية التي تميزهم عن الشعوب المتحضرة المستنيرة أي نحن بالذات، فإنه ينبغي على الغرب أن يدعم وصول الإخوان إلى السلطة بشرط واحد: أن يظلوا محصورين داخل نطاقهم الجغرافي وألا يتعدوه أبدا. ليفعلوا ما يشاؤون داخل بلدانهم: ليفرضوا الحجاب على المرأة إذا شاؤوا، ليمنعوا الناس من شرب الكحول إذا أرادوا، ليفصلوا بين الذكور والإناث في المدرسة وفي كل مجالات الحياة، ليفرضوا النظام الإسلامي الصارم طبقا لمقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه مشكلتهم لا مشكلتنا. ولكن لا يحق لهم أن يفرضوا ذلك خارج نطاق الدول العربية او الإسلامية. لا يحق لهم ان يفرضوه مثلا على الجاليات الإسلامية في أوروبا او أميركا. هذا خط أحمر. في بلاد الحضارات لا يسود النظام الإسلامي او النظام المسيحي وانما يسود نظام الحداثة والديمقراطية الكاملة: أي النظام العلماني المحكوم بشريعة حقوق الإنسان والمواطن والفلسفة السياسية الحديثة لا بالشريعة الدينية القروسطية. هذه هي خطة الصقر ذي الأجنحة الملائكية باراك حسين أوباما، وعلى نفس النهج تمشي السيدة هيلاري كلينتون: عندليب الربيع العربي. فما تنفك تتغنى به على مدار الساعة..وهكذا كانت خطة سلفه في البيت الأبيض جورج دبليو بوش.فقط اختلف الأسلوب: من فظ خشن، إلى أملس ناعم. ولكن النتيجة واحدة والفلسفة واحدة: بمعنى آخر فأنهم لا يخرجون من منطق صدام الحضارات الا ظاهريا. كان ينبغي عليهم ان يخرجوا منها عن طريق دمج الحضارات مع بعضها البعض وذلك بغية تحقيق البارديغم الحضاري الأعلى: أي التوصل إلى حضارة إنسانية كونية تلتقي على أرضيتها الواسعة كل شعوب الأرض. أو قل إنهم يخرجون من منطق صدام الحضارات عن طريق الفصل بين الحضارات! إنهم يقيمون جدرانا عازلة بين حضارتهم وحضارتنا: فهم هم، ونحن نحن، ولا علاقة بيننا ولا يمكن ان نصبح متساوين او من حضارة واحدة. كيف يمكن للمتقدم ان يندمج مع المتخلف او يتعامل معه من موقع الند للند؟ وهذا ينطوي ضمنيا على نظرة استعلائية مبطنة لا تفصح عن نفسها. إنها تعيدنا إلى منطق كيبلنغ الاستعماري قبل أكثر من قرن: الشرق شرق والغرب غرب وأبدا لن يلتقيا!
ولكن يبدو كلام المؤلف مبالغا فيه هنا. فالسيدة كلينتون والسيد آلان جوبيه يركزان على ضرورة ان تحترم الحركات الإخوانية الحد الأدنى من حقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة إذا ما استلمت السلطة. كما ينبغي أن تحترم حقوق الأقليات وألا تضطهدها بعد ان تستلم الحكم ويفرغ لها الجو. ويقولان بأنهما سيكونان يقظين ولن يسمحا للأنظمة الجديدة بتطبيق الشريعة مثلا كالجلد والرجم وتعدد الزوجات ونشر الأفكار التكفيرية ضد الآخرين..آلان جوبيه يكرر دائما ان هناك خطوطا حمرا لا ينبغي تعديها من قبل الأنظمة الجديدة ذات الأغلبية الإخوانية.
يعترف مازري حداد بأن معادلة: اما الديكتاتورية واما الأصولية، كانت قد استخدمت من قبل الأنظمة الاستبدادية العربية لتبرير طبيعتها البوليسية الإجرامية وإقناع الغرب بها عن طريق استخدام الفزاعة الإسلامية.وهي فزاعة أصبحت مخيفة جدا بعد 11 سبتمبر كما هو معلوم. ولكن إذا كان ذلك صحيحا فانه لا ينبغي على الغرب ان يقلب موقفه 180 درجة لصالح الإخوان كرد فعل على موقفه السابق الداعم لأنظمة الاستبداد والفساد والإجرام. لا ينبغي ان ينتقل من النقيض الى النقيض. وهو يفعل ذلك اما بسبب شعوره بالذنب جراء دعمه لهذه الأنظمة البوليسية لفترة طويلة، وإما بسبب نزعته البراغماتية الانتهازية.
ولكن لماذا لا نأخذ الأمور بايجابية؟ لماذا لا نحاول مساعدة الحركات الإخوانية والسلفية على التطور المتدرج المعقول بدلا من الصدام معها وجها لوجه؟ بما أنها هي التي تمثل الأغلبية الشعبية كما هو واضح من كل الانتخابات التي جرت فقد يكون موقف جوبيه وهيلاري كلينتون هو الحل الأفضل. فتجربة الحكم والاحتكاك بالواقع المرّ سوف تجبر حركات الإسلام السياسي على التأقلم مع الظروف والتخلي عن أطروحاتها المتشددة المضادة لروح العصر بشكل صارخ. وعلى أي حال فلا يمكن أن نضع جميع الإسلاميين في خانة واحدة ونحكم عليهم بالإعدام دون أي تمييز. فهناك إسلاميون مثقفون يرغبون فعلا بتحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة كبعض قادة النهضة في تونس مثلا، وهناك ظلاميون تكفيريون لا ينفع معهم أي حوار..وعلى أي حال فإن الغرب لم يعد يعرف كيف يتعامل معنا: اذا تعامل مع الأنظمة الديكتاتورية هاجمه الإسلاميون بعنف بل وقاموا بالتفجيرات الارهابية حتى داخل عواصمه! وإذا تعامل مع الإسلاميين المعتدلين هاجمه الليبراليون العرب كما يفعل المؤلف هنا. وبالتالي فلم يعد يعرف على أي رجل يرقص؟ انه يعلم علم اليقين أن الجماهير العربية أمية،فقيرة، جاهلة، في قسم كبير منها وأن الشيخ القرضاوي يؤثر عليها أكثر من كل الأحزاب العربية التقدمية مجتمعة. وبالتالي فهو مضطر للتعامل مع الشيخ القرضاوي واتخاذه كمحاور مباشر او غير مباشر. بانتظار أن تستنير الشعوب العربية وتخرج من فقرها وعذابها، بانتظار أن يصبح الليبراليون العرب شعبيين لا نخبويين فقط فلا يوجد حل آخر. ينبغي أن نعترف بالحقيقة المرة: نحن لا نمثل الشعب، يمثله شيوخ الجوامع والفضائيات والمثقف الأصولي..والشرعية في العالم العربي لا تزال دينية لاهوتية وليست علمانية فلسفية. نحن لسنا في أوروبا التي لا يتجرأ رجال الدين فيها على فتح فمهم مخافة أن يسخروا منهم! كما يلاحظ القارئ أحاول هنا أن أستعرض أطروحات المؤلف والأطروحات المضادة له بغية إضاءة الإشكالية إذا أمكن..
هل قطر الوهابية هي التي تحمي فرنسا؟!
ذكرنا بأن الأطروحة الأساسية للكتاب تقول بأن الربيع العربي ليس “عفويا” الى الدرجة التي نتوهمها. فالولايات المتحدة قررت إعادة ترتيب بيت الشرق الأوسط الكبير بما يتناسب مع مصالحها في المنطقة. وقد استخدمت المخابرات المركزية الأميركية لهذا الغرض عدة منظمات “خيرية” غير حكومية كواجهة لتحريك الأمور من خلف الستار. وهذه المنظمات عرفت كيف تتلاعب بعقول الشباب القائمين على الفيسبوك والانترنيت او بعضهم على الأقل. وعلى هذا النحو انطلقت شرارة الحريق وراحت تنتقل من بلد الى بلد كما لو بقدرة قادر. والغرب يراقب كل ذلك ويحرك الخيوط.. لكن ما علاقة دولة قطر بكل ذلك؟ يرى المؤلف في أطروحته المركزية أن قطر تلعب حصان طروادة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن علاوة على ذلك فإنها تشتغل أيضا لصالحها. فقد وجدت في هذه الانقلابات الثورية فرصة سانحة لفرض أيديولوجيتها السلفية الوهابية على العالم العربي. وجيشت طاقات الجزيرة و”البابا المعصوم” يوسف القرضاوي لهذا الغرض. فراح يوزع الفتاوى الإلهية يمينا وشمالا كيفما اتفق وعلى هوى تقلبات السياسة الخارجية القطرية ورغبات الأمير. وقبل الغرب بذلك بشرط ان تظل مصالحه ومصالح ربيبته مضمونة. وهكذا تم الاتفاق على الصفقة: كل واحد من الطرفين رابح. وبالتالي فهذا الربيع القطري القرضاوي السلفي الأميركي ليس هو الربيع الحقيقي الديمقراطي الذي تنتظره الشعوب العربية منذ عقود. أو قل كان مستهلا ولكنهم صادروه وحرفوه عن مساره الصحيح الأولي. ووقع الشباب السذج في الفخ. وأكبر دليل على ذلك ان شباب ميدان التحرير الذين قاموا بالثورة خرجوا منها بخفي حنين. فقد أسقطوا الاستبداد وحسنا فعلوا وتحدوا الشرطة والمجلس العسكري وكل شيء. وحسنا فعلوا أيضا. ولكنهم غفلوا عن الحقيقة التالية: وهي أن عدوهم الأساسي هو القوى السلفية والإخوانية الظلامية التي راحت من تحت أنوفهم تقطف ثمار ثورتهم وربيعهم وتضحيات كل الشهداء الذي سقطوا. ويرى المؤلف ان الغرب يرتكب خطيئة عظمى اذ يتحالف مع هذه القوى الأصولية التي كانت في حالة هبوط وانحسار قبل اندلاع الانتفاضات الثورية. فلماذا أعادها إلى الواجهة من جديد ونفخ فيها الروح فأخذت تتفرعن وتسيطر وتهدد وتكتسح الساحة انتخابيا؟ لماذا أجهض الحلم الديمقراطي العربي وفرغه من محتواه وأعطاه كهدية لأعداء الحرية والديمقراطية وكل الفلسفة الإنسانية الحديثة؟ ماذا يريد الغرب؟ هل يريد ان يظل العرب خارج التاريخ يتخبطون في غياهب القرون الوسطى؟ هل يريد ان يشغلهم بالتوافه والثانويات كلبس الحجاب ومنع الاختلاط وتطبيق الحدود وتعدد الزوجات لكي يتأخر دخولهم الى ميدان الحضارة؟ هل يخشى أن ينافسوه إذا ما اكتشفوا أول الخيط الذي يقود إلى المستقبل؟ هل يريد لهم ان ينتقلوا من ديكتاتورية عسكرية الى ديكتاتورية لاهوتية أشد وأدهى؟ هل يعجبه أن يظلوا حيث هم في مستنقع تخلفهم؟ وهكذا يبقى هو سيد العلم والحضارة والفلسفة والاستنارة. ماذا يريد الغرب بالضبط؟ ويصل غضب مازري حداد على فرنسا الى حد قول ما يلي: إذا ما وضعت فرنسا نفسها تحت الحماية الوهابية لقطر فإنها لن تخشى على نفسها من النظام الطالباني الذي سينبثق حتما في ليبيا والذي ساهم السيد ساركوزي وفيلسوفه الكبير برنار هنري ليفي في انبثاقه وانتصاره. ثم يردف قائلا فيما يخص تونس: حركة النهضة التونسية سوف تختار من بين الأحزاب التقدمية واليسارية التي تحالفت معها منذ نهاية التسعينات شخصية معينة لرئاسة الجمهورية، تماما كما فعل الخميني مع بني صدر. والنتيجة معروفة.(هذا الكلام كتب قبل تعيين المنصف المرزوقي لرئاسة تونس وقبل حصول الانتخابات أصلا). ثم يردف قائلا: لن يقطع الأصوليون التونسيون يد السارق، ولن يتراجعوا فورا عن حقوق المرأة المثبتة في قانون الأحوال الشخصية والذي هو الأرقى في كل أنحاء العالم العربي. ولن يغلقوا الفنادق ولكنهم سيشجعون السياحة الإسلامية. لن يجبروا النساء على لبس الحجاب ولكن الضغط الاجتماعي الذي سيمارسونه بشكل “عفوي” أي من تحت لتحت سوف يجبرهن. لن يغيروا راديكاليا القانون المدني وقانون العقوبات ولكنهم سيحاولون جاهدين “شرعنته” أي إدخال الشريعة إليه عن طريق لمسات جزئية بسيطة متدرجة على طريقة طيب رجب أردوغان في تركيا. وهو تكتيك ماكر برع فيه “الإسلام المعتدل”! وقد أصبح أردوغان زعيم مدرسة البراغماتية الإسلامية كما هو معلوم. لقد أصبح النموذج الأعلى لكل قادة الإخوان العرب من بنكيران إلى الغنوشي الى الآخرين..هذه هي البراغماتية الإسلامية الجديدة المعمدة من قبل الكهنة في جامع تركي! كل قادة الحركات الإسلامية العربية أعلنوا ان أردوغان هو نموذجهم الأعلى الذي يحتذى. ولذا أصبح الرجل يتصرف بشكل إمبراطوري تجاه العالم العربي تماما كما السلطان العثماني أيام زمان..
أردوغان والعلمانية: مكرهٌ أخاك لا بطل!
ثم يستدرك مازري حداد قائلا: ولكن هل يعلمون ان هذه الإسلاموية المخففة أو ما يدعونه بالإسلام المعتدل لن ينتصر في ليبيا او مصر ولا حتى في تونس كما انتصر في تركيا؟ لماذا؟ لأسباب تاريخية وسيكولوجية وسوسيولوجية أولية. ثم لسبب آخر: وهو أن أردوغان أو حزب التنمية والعدالة التركي لم يختر صيغته التحررية الحالية وإنما أجبر عليها إجبارا! أردوغان كان أصوليا إخوانيا مثلهم وكان يتمنى لو بقي أصوليا إخوانيا. وحزبه يحتوي على الكثير من الإخوان المتشددين الذين يكرهون العلمانية والحداثة كره النجوس..ولكن عدة عوامل داخلية وخارجية أجبرته على التطور والتغير غصبا عنه. نعم لقد أجبرته الجمهورية التركية العلمانية على التطور والتخلي عن المواقف الإخوانية الأصولية السابقة. كما أجبره الجيش التركي، ذلك الساهر الأمين على إرث مصطفى كمال أتاتورك. يضاف إلى ذلك ان حزب أردوغان اضطر للتأقلم مع تراث ديمقراطي كان موجودا سابقا في تركيا، وهو معدوم في العالم العربي. وبالتالي فلا ينبغي ان نخلط بين الأمور. تركيا ليست ليبيا ولا مصر ولا تونس. يضاف الى ذلك أيضا ان نزعة الهيمنة لأردوغان يتصدى لها حزب قوي هو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك شخصيا عام 1923. أما حزب بورقيبة المؤسس عام 1934 فكان يمكن ان يلعب نفس الدور تجاه النهضة والغنوشي لولا أنهم فككوه وقطعوا رأسه بعد الثورة. وقل الأمر ذاته عن الحزب الوطني الديمقراطي لمبارك في مصر..كل هذه العوامل المتوافرة في تركيا والمشجعة على الانفتاح والتحرر من عقلية الإخوان المسلمين الانغلاقية الضيقة غير موجودة في أي بلد عربي. من هنا الخوف على مصير هذه البلدان بعد الربيع العربي الذي قد يتحول الى خريف خائب او حتى شتاء قارس.
وقد يتساءلون:لماذا ربحت “النهضة” الانتخابات في تونس؟وجواب المؤلف هو التالي: لأن التونسيين مهيّؤون سيكولوجيا وثقافيا لاستقبال الأصوليين وكأنهم منقذون أرسلهم الله لكي يعيدوا للإسلام دوره ومجده في تونس المحروسة بعد طول كسوف وغياب. لقد أنقذوا الروح التونسية من اللعنة الأبدية التي أصابتها طيلة العهود السابقة. في الماضي كنا شعبا كافرا زنديقا، والآن مع النهضة سوف نعود الى القيم “الحقيقية” للإسلام! سوف نصبح طاهرين، مطهرين. وعلى هذا النحو سنخرج من الجاهلية نهائيا ونقلب تلك الصفحة السوداء للمرتدين الذين أهانوا الإسلام في عقر داره منذ عام 1956. باختصار شديد: منذ الاستقلال كنا قد أصبحنا شعبا وثنيا مبتعدا عن الله دون ان نعي ذلك..على هذا النحو يفكر الشعب التونسي البسيط الطيب..والذنب ليس ذنبه وإنما ذنب الفقر والجهل والظروف. ثم يردف مزري حداد قائلا:
ينبغي العلم بأنه لا بورقيبة ولا بن علي قاما بتهيئة الشعب التونسي للامتحان الديمقراطي الذي لا يمكن أن يحصل الا بعد تدرب طويل على العلمانية الدنيوية التي لا نطابق بينها وبين العلمانية الفرنسية بالضرورة. فهناك عدة أنواع من العلمانية لا نوع واحد. هناك عدة طرق لإقامة علاقات حديثة بين الدين والدولة او للفصل بين هذه العلاقات. على العكس من ذلك لقد حاول كلاهما، أي بورقيبة وبن علي، أن يستغلا العاطفة الدينية للشعب التونسي لأغراض سياسية مثلما يفعل كل حكام العرب والمسلمين. لماذا فعلا ذلك؟ كي يعوضا عن نقص المشروعية الديمقراطية لنظامهما. فما دام النظام غير ديمقراطي، أي غير منتخب بشكل حر من قبل الشعب، فلا يمكن إلا أن يستغل الحاكم هيبة الدين ومشروعيته العظمى لنيل بعض المشروعية في أنظار شعبه. هذه بدهية. ويمكن أن نضيف إلى كلام مازري حداد ما يلي: ما دام الدين لم يتعرض للنقد التاريخي كما حصل للمسيحية في أوروبا،وما دامت العلمانية لم تحل محله كذروة عليا للمشروعية السياسية، فإن الأمر سيظل هكذا إلى أبد الآبدين..
ويمكن أن نضيف مع المؤلف ونزيد عليه قائلين: ليس المقلق أن يكون التونسيون والعرب عموما بحاجة الى وقت طويل قبل التوصل إلى تشكيل دولة علمانية ديمقراطية حديثة.فهذا شيء طبيعي ولا ينبغي أن يدهش أحدا. أوروبا ظلت تصارع ذاتها وتراثها الديني طيلة أربعة قرون حتى توصلت إلى ذلك.هذه قصة طويلة وصعبة ومتعرجة ومليئة بالمطبات والتقدم إلى الأمام والتراجع إلى الخلف بغية التقاط الأنفاس في كل مرة، الخ. ولكن المقلق فعلا هو ذلك الزمن القصير جدا الذي لزم على قوى الارتكاس أن تستخدمه لكي تحقق بعض الانتصارات الرمزية ولكي تقنع الشعب التونسي بأنها هي المستقبل!على الرغم من كل الفرحة الغامرة الآن والإجماع الشامل غربا وشرقا فاني مصر على القول بأن الأصولية ليست المستقبل وإنما الماضي الذي لا يمضي..إنها عبارة عن حاضر عجوز يرفض ان يصبح ماضيا. فكيف اكتسى أثوابا براقة مؤخرا؟ كيف خدع كل الناس بمن فيهم المثقفون؟وكل ما نخشاه هو ان يغطي ضباب الخريف والشتاء قريبا على الربيع العربي.
شبح الاستعمار الجديد يتراءى خلف الربيع العربي!
علاوة على ذلك فاني سأقول ما يلي: وراء هذا الكرنفال الديمقراطي الكبير الممتد من المحيط الى الخليج ألمح شبح مشروع الاستعمار الجديد. هناك تحالف يتم تجميعه وحشده الآن لسحق آخر معاقل المقاومة العربية ولعزل إيران التي أصبحت قوة إقليمية عظمى مزعجة للكثيرين. بم يتمثل المشروع الاستعماري الجديد؟ ما هي الأدوات التي سيستخدمها لتحقيق هدفه؟ انه يحاول بعث النزاع المذهبي المفتعل بين السنة والشيعة،كما ويحاول اللعب على وتر الصراع التاريخي بين الامبراطورية الفارسية الصفوية والإمبراطورية العثمانية. وبعد ذلك كله يريد ان يضع كل الأنظمة الإخوانية العربية التي ستخرج من صناديق الاقتراع تحت مظلة أردوغان والهيمنة التركية. لماذا؟ لأن القائد التركي لا يتمرد على الأوامر مثل الإيرانيين. وأكبر دليل على ذلك هو انه أذعن لنشر شبكة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيه.(بين قوسين وكتعليق على كلام مازري حداد القائل بأن الصراع السني- الشيعي مفتعل من قبل الغرب أقول بأنه مخطئ تماما هنا.فهذا الصراع الذي اخترق تاريخ الإسلام كله لا يمكن القول بأنه مفتعل.على العكس انه شرخ في تاريخ طويل..ولو كان سوريا او عراقيا او لبنانيا او خليجيا أو مشرقيا لما قال هذا الكلام. لا. الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية موجودة فعلا على أرض الواقع. وهي تغلي في النفوس غليانا في هذه اللحظة بالذات. ولا يمكن ان تلوم الغرب على استغلالها لتقسيمك وإنما ينبغي ان تلوم حالك لأنك لست قادرا على تجاوزها عن طريق فكر تنويري جديد).لكن لنواصل رحلتنا الطويلة مع مازري حداد. يقول: هناك مخطط لتقسيم ليبيا في حالة ان النظام الجديد لمصطفى عبد الجليل لم ينجح في مهمته. وعندئذ قد يتعرض هذا البلد الذي يغص بالثروات الطبيعية لنفس المصير الذي تعرض له العراق من قبل. فهو مقسم عمليا إلى ثلاث دول بعد الاحتلال الأميركي وذلك تلبية لرغبات إسرائيل وأوامرها. وعلى غرار السودان فان كل البلدان العربية ذات المساحة الواسعة سوف تتعرض للتقسيم طبقا لمعايير طائفية وعرقية بغية تحقيق أهداف اقتصادية تشبع نهم الغرب الذي لا يشبع(بترول،غاز،مياه). ويعتقد مازري حداد ان موقف الجزائر من الصراع الليبي يشرف أحفاد الأمير العظيم عبد القادر الجزائري. فقد رفضت ان تلعب اللعبة القذرة: لعبة المخطط الكولونيالي الجديد. ولأنها رفضت ذلك فإنها أصبحت مستهدفة من قبل بدو قطر وحماتهم الأميركيين- الإسرائيليين. ولهذا السبب فإن لورنس العرب الجديد برنار هنري ليفي أصبح يسن أسنانه على الجزائر ترقبا لاندلاع الربيع العربي فيها. ومعلوم أنها بلده الأصلي حيث ولد فيها عام 1948 وذلك قبل ان تنتقل عائلته إلى المغرب ثم فرنسا. وبالتالي فالهجوم على الجزائر وتقسيمها إلى دولة عربية ودولة بربرية يهمه جدا.
قد يقول قائل: ولكنك تفسر كل شيء عن طريق نظرية المؤامرة. ويجيب المؤلف: أعترف بأنه لا يكفي أن يضغط الأمريكان على الأزرار لكي يهيجوا كل جيوشهم المحلية على الفيسبوك والتويتر والانترنيت والفضائيات ويشعلوا ثورة ربيع عربي في هذا القطر او ذاك. فلو لم تكن الظروف الاجتماعية والسياسية مهيأة لذلك لما انتفض الشباب العربي بالغضب ضد أنظمة الفساد، ولما كان الربيع العربي. هذا شيء مفروغ منه. وبالتالي فللربيع العربي أسباب واقعية، موضوعية هي الديكتاتورية، الفساد والرشوة والمحسوبية، البطالة التي تصيب نسبة هائلة من شباب العرب. وهذا يعني ان كل شروط الانفجار العربي كانت جاهزة ومتوافرة ولكن مبارك وبن علي وسواهما من الديكتاتوريين غضوا البصر عنها ودفنوا رؤوسهم في الرمال كالنعامات. فكان ان كنستهم الانفجارات تكنيسا. ولكن هذه الحالة من الغضب الاجتماعي للشبيبة العربية استغلها الإستراتيجيون الأمريكان لقلب الأنظمة وتجديد الطبقة السياسية العربية وقطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية الحقيقية.
وبالتالي فإن المؤلف يوجه النصيحة التالية الى كل الأنظمة الواقعة في مرمى الهدف الفرنسي- الأميركي: سارعوا إلى إجراء الإصلاحات الحقيقية قبل فوات الأوان. فعلاج الثورات الحقيقي ليس القمع الدموي المجرم وإنما الإصلاح الفعال. فهو وحده القادر على إيقافها. تلزم إصلاحات ديمقراطية واقتصادية واجتماعية ملحة وإلا فأمامكم الطوفان! وقد أعذر من أنذر..
ثم يختتم المؤلف كلامه قائلا: يريدون إقناعنا بأن كل هذه الثورات عفوية، بأن هذه الفتنة الكبرى شيء جيد بالنسبة للعالم العربي..ولكن وراء هذا الانتشاء بالحرية والفرح بالديمقراطية يقبع شبح ثلاثة مخاطر قاتلة: الأصولية الظلامية، والفوضى الشاملة، وفقدان السيادة الوطنية لمصلحة الأجانب. ينبغي ان يعلم العرب ان هناك ما هو أخطر من الديكتاتورية: الفوضى الشاملة بعد انهيار الدولة، وما هو أخطر من الفوضى الشاملة: الحرب الأهلية، وما هو أخطر من الحرب الأهلية: عودة الاستعمار.
أسئلة وأجوبة
عندما طرحوا على مازري حداد هذا السؤال:ه ل تعتقد بأن حزب الغنوشي قد أصبح ديمقراطيا وقطع مع كل فكر توتاليتاري؟ أجاب:
لا أعتقد ذلك. فالايدولوجيا التي قام عليها هذا الحزب تخلط بشكل كامل بين الدين والسياسة. وبالتالي فلا يمكن لحزب كهذا ان يكون إلا استبداديا توتاليتاريا.
ولكن السؤال المحير المطروح في الواقع هو التالي: لماذا صوت كل هذا العدد الكبير من نساء تونس وشبابها المعولم الحداثي المنكب على الفيسبوك والتويتر لصالح حزب أصولي هو حزب النهضة؟ نفس السؤال ينطبق على كل البلدان العربية الأخرى من مصر إلى المغرب إلى ليبيا حتما..
الجواب: يرى مازري حداد أن الشباب الحداثي المتطور لم يصوت للغنوشي. هذا غير صحيح.ولكن ماذا يمثل سوسيولوجيا، أي عدديا، في المجتمع التونسي؟ ليس قسما كبيرا من الناس على عكس ما تتوهمون. الأغلبية العظمى التي صوتت لهم هي من فقراء الأرياف والأحياء الشعبية والناس البسطاء والأميين. وهؤلاء يشكلون أغلبية الشعب. الشعب التونسي لا يزال فقيرا ومتأخرا في شرائح واسعة منه. هذه حقيقة. وأغلبية هؤلاء الناخبين يعتقدون عن جد بأن الأصولية تجسد فعلا الطهارة الأخلاقية. وبالتالي فالتصويت لهم واجب ديني بل ان التصويت للعلمانيين يعتبر خطيئة وحراما. ان هذا الخلط الذكي بين الإسلام والإسلاموية، بين الدين الروحاني- الأخلاقي والايديولوجيا السياسية المنبثقة عنه، هو الذي لعب عليه تيار الغنوشي وكل تيارات الإسلام السياسي بمهارة. وهو سبب نجاحهم واكتساحهم لكل الانتخابات التي تجري. فالناس البسطاء بل وحتى أنصاف المتعلمين لا يستطيعون التفريق بين الدين وبين التأويل الأصولي له. إنهما شيء واحد بالنسبة لهم. على هذا النحو نجح حزب الغنوشي في احتكار الإسلام كله لوحده فأصبح الإسلام وحزب النهضة متطابقين. هنا تكمن القوة الهائلة لحزب الغنوشي وكل أحزاب الإسلام السياسي كما قلنا. إذا كان التصويت مشروطا منذ البداية بالخوف من النار والطمع في الجنة فإن اللعبة الديمقراطية مزيفة مسبقا ومحسومة سلفا للتنظيمات الدينية او التي تستخدم الدين بكل فعالية كأيديولوجيا سياسية. ولا يستطيع التيار العلماني التقدمي ان يفعل شيئا. دوره لم يجئ بعد ولن يجيء قبل سنوات طويلة عندما تستنير العقول..
والسؤال المطروح الآن هو التالي: كيف ترى مستقبل تونس؟ هل المكتسبات التقدمية التنويرية لعهد بورقيبة مهددة؟
الجواب: في علم السياسة كما في علم الرياضيات هناك معادلات ذات مجاهيل عديدة، وهناك خفايا ودقائق ومفاجآت. كل شيء يمكن ان يحصل في تونس. ولكن كل شيء أيضا يعتمد على مقاومة قوى التقدم والمجتمع المدني والمسلمين المستنيرين حقا. من المؤكد ان جماعة النهضة يحقدون على بورقيبة بشكل أعمى. وبالتالي فمكتسبات المرأة التونسية ليست خطا أحمر بالنسبة لهم. وقد يتراجعون عنها او عن بعضها اذا ما استسلم لهم المجتمع وقواه الحية. ولكن هذه المكتسبات ليست مهددة فورا. ينبغي ان تستتب الأمور لهم تماما قبل ان يحاولوا التحرك والضرب. الإسلاميون أصبحوا أذكياء ومحترفي سياسة ولا يكشفون أوراقهم دفعة واحدة. سوف يستخدمون التكتيك التدريجي كما قلنا.يضاف الى ذلك ان الاميركان لا يزالون بحاجة الى النموذج التونسي الجيد قبل ان ينتقلوا الى المرحلة التالية من الربيع العربي: إسقاط سوريا وربما الجزائر من بعدها. وكما كان البابا يوحنا بولس الثاني يقول للمسيحيين: لا تخافوا! كونوا مطمئنين! أنا هنا والروح القدس معي أحميكم، فان أوباما يقول للعرب: لا تخافوا يا عرب. الأصولية هي المستقبل. هذا أفضل الموجود. اقبلوا بحظكم في الحياة و”بديمقراطية دينية” على قدكم ومقاسكم ومستوى تطوركم او بالأحرى تخلفكم وتزمتكم. لا تستحقون أكثر من ذلك. لكم الشريعة، ولنا البترول. لكل دينه!
سؤال:في رأيك هل سيكون الشتاء الأصولي أسوأ في ليبيا ومصر منه في تونس؟
حداد: بدون شك. في مصر سيربح الإخوان الانتخابات النيابية بشكل صارخ اكثر مما فعلته النهضة في تونس(هذا الكلام قيل قبل الانتخابات المصرية). أما بالنسبة لليبيا فالوضع سيكون أسوأ وأسوأ. اذا ما استطاعت المحافظة على وحدة أراضيها ودولتها القومية فان نظامها اما أنه سيكون نسخة طبق الأصل عن وهابية قطر، او نسخة طبق الأصل عن وهابية الطالبان في أفغانستان. ويا له من خيار! في كل بلد يتعرض لظاهرة الربيع العربي سنلاحظ ان الأصولية ستتخذ الطابع السوسيولوجي والسيكولوجي،أي الاجتماعي والنفساني، لمعطيات القطر المعني. هناك معطيات محلية موجودة في ليبيا غير تلك الموجودة في تونس او مصر الخ. والعكس صحيح أيضا.
ينبغي العلم بأن الأصولية المعتدلة عبارة عن سمفونية مضللة للعقول. وقد اخترعها الغرب منذ بضع سنوات لتخديرنا. لا ريب في ان الإسلام التركي على طريقة اردوغان مختلف عن إسلام الطالبان وإسلام قطر ولا علاقة له بإسلام إيران الخمينية. ولكن على الرغم من ذلك يبقى صحيحا القول بأن الأصولية هي الأصولية! إنها عبارة عن عقيدة لاهوتية- سياسية يتخذ فيها الإيمان الديني صفة القانون الملزم. إذا كانت الأصولية المعتدلة موجودة فلماذا لا يعترف بها السيد ساركوزي هنا في فرنسا. ألا يوجد في فرنسا مسلمون أكثر مما يوجد في قطر بخمسين مرة؟وعندئذ يصبح البرلمان الفرنسي مفتوحا لنائبة تلبس البرقع الأفغاني ونائب يلبس الطربوش العثماني. شيء حلو! ألن يكون ذلك تجسيدا للتعددية الثقافية وحق الاختلاف؟!
الشرق الأوسط