صفحات الرأي

‘الربيع’ ممنوعا من الحكم في دمشق والقاهرة

مطاع صفدي

في اللغة السياسية اليومية المتفاعلة مع أزمة الحلول الدولية الفاشلة إزاء تطورات مذابح النظام السوري، يلعب التوقيت الأمريكي الدور الحاسم في مصير هذه الأزمة. وقد ارتكزت مواقف الدبلوماسية الأمريكية الى التشبث بمنطق ردّ الفعل على الدبلوماسية الروسية، بحيث صار واضحاً أن كليهما رغم تناقضهما العلني، لكنهما اتفقا على تعطيل كل حل. إدامةُ التقاتل وصولاً إلى المذابح المتبادلة، صار واقُعها هو المحرك الفعلي لهذه النشاطات المتسارعة في التصريحات واللقاءات وتعدد التشكيلات والجبهات وسواها، سواء منها بين قادة الدول الكبرى، أو على صعيد جماعات المعارضة ومعها بعض الأطراف الإقليمية الحاكمة. ما يجري في البلد الجريح سورية، لا أحد من هذه القوى في الخارج مستعد لتفهمه، لمعرفة وقائعه وتعقيداتها، رغم أن الجميع متفق على أن البلد سائر نحو الحرب الأهلية، أو أنه أمسى متخطياً لحدودها الأولية، وأن هذا المصير لن تقف أضراره ضمن حدوده الجغرافية؛ ثمة من هو راغب حقاً ليس بإنجاز المذبحة الشاملة وحدها، بل بجعلها قاطرةً رهيبة لقافلة الفوضى العامة في أقاليم المشرق كله. هنالك من يعترف أنه لا بديل عن الربيع العربي الشعبي إلا فوضى المقتلات الأهلوية، المتناسلة من بعضها، في الاتجاهين العمقي داخل كل قطر، والأفقي مخترقاً الخارطة القطرية، وتشكيلاتها المصطنعة.

عملياً وخلال الشهور المظلمة المتتابعة لعب التعطيل الروسي للقرار الدولي (الحاسم) دور الذريعة المستديمة للتردد الأمريكي، أو على الأقل هذا ما حقق لأمريكا سياسة التنصل من دعاوى قيادتها لحركات الديمقراطية العالمية، في حين أنها تنفذ مخططاً آخر هو من صميم استراتيجيتها المختصّة بتطورات المنطقة العربية، وأول مبدأ لها لم يتقدم خطوةً واحدة عن مفهوم الاستعمار التقليدي، القائل بحرمان شعوب الأمة العربية من مقومات الاستقلال الحقيقي، وأهمها هو التقدم النهضوي الضامن لنشأة المجتمع المدنيّ، حيثما يمكن للاستقلال السياسي أن يرتكز إلى قاعدة إنسانية وقانونية راسخة وموضوعية، مميزة تحت مصطلح المجتمع المدني، فالجهد المعادي دولياً للربيع العربي إنما ينصبّ على تخريب مرحلة الانتقال من لحظة الثورة في القاعدة إلى لحظة الحكم المدني في القمة.

يتحقق هذا الهدف بقدر ما يتم تعجيزُ الثورة عن إسقاط رأس النظام، أو النظام نفسه بعده، والتجربتان المصرية والسورية شاهدتان على الحالتين هاتين معاً. كلاهما مهددتان يومياً باستنقاع أحوالهما ريثما تتآكل الإمكانيات الشعبية بالقمع من قبل أعدائها، أو بالتبعثر والتخالف بين أقطابها وشراذمها. لكن تباعد الزمن بين الثورة وأهدافها المباشرة، بفواصل متنوعة من الإحباطات والتدخلات وأثمانها البشرية الرهيبة، هذا التباعد مثلما يهدد باستنفاد القوى أو باستنقاع ما تبقّى منها، فإنه قد ينتج العكس من كل هذه الانحرافات؛ إذ تكتسب الثورة إلى صفوفها جماهير وكتلاً وفئات كثيرة لم تكن معها منذ البداية لأسباب متنوعة، لكن بالمقابل فقد يتحول النظام القائم، كله أو بعضه، إلى نوع من الثورة المضادة الفوقية. ذلك هو الرهان الأخير للسلطة الحاكمة في دمشق. كما أن المجلس العسكري في القاهرة دأب منذ البداية على ممارسة سياسة الثورة المضادة بأساليب سلطة الأمر الواقع الذي لا تزال الدولة تتمتع بكل أسبابه الفعلية، جاعلاً من نفسه ممثلاً لشرعيتها، والسلطة الحامية لكيانها ومجتمعها معاً، بينما تشعر الجماهير الثائرة أنها ستظل محرومة من سلطتها الحقوقية مادامت غير قادرة على إيصال ممثليها من طلائعها الشابة الصاعدة، إلى مصاف الحاكمين باسم الشرعية الثورية أولاً، وحدها.

المجلس الفرعوني الحاكم الذي ادعى تحالفاً عرَضياً مع الثورة المتفجرة، خوَّل نفسه قيادة العملية السياسية المفترضة أنها نتاج الثورة الحركات الشبابية الحاملة لمبادئها، فعل ذلك بحكم سلطته الدولتية المنتمية أصلاً للنظام القديم، ما يعني أن الثورة منحت نوعاً من سلطة مستحدثة لعدوها القديم ذاك؛ فقد اعطته ترخيصاً باستئناف الديكتاتورية السابقة مع إضافة تبعيتها الجديدة لها، حكماً وواقعاً، الأمرُ الذي يجعل مصر كأنها واقعة تحت سلطة انقلاب عسكري جديد، منشغل بترتيب وتدبير واجهته السياسية، وذلك من خلال افتعال كل هذا الصخب الهائل للنظام القديم وهوامشه ضداً على مظاهر الحراك السياسي المدني، من دون مضمونه الفعلي.

هكذا تعيش ثورة مصر ملء شبكية من التناقضات تحيط بها من كل جانب، تتجاذبها كأفكار واتجاهات متعددة ومتعارضة، تكاد تُـفقدها بوصلتَها الخاصة. فحدودها متداخلة مع تشكيلات وتيارات وشراذم وقوى يطفح بها مجتمع كبير كان هامداً خامداً، ثم انطلقت جحافله المجهولة باحثة عن أدوارها السياسية في ظل عملية ديمقراطية، كان يمكن لها أن تفرز رجالها وترسم نظامها أقربَ ما يمكن من تحقيق مطامح الحرية الوليدة، لولا وقوع هذه المرحلة كلها تحت وصاية نقيضها الأكبر أو ما تبقّى منه كشبح للعسكرتاريا الفرعونية الجانحة نحو الزوال.. لكن متى وكيف؟

نجحت هذه الوصاية في اختزال الديمقراطية الوليدة، وجعلها تفرض على الشعب الثائر أضيقَ حرية بين خيارين، من أجل أن تأتي بالرئيس الموعود لدولة التغيير الشمولي المنتظر، فالاستبداد هابط من أعلى مجدداً مع المرشح العسكري، أو أن الاستبداد صاعد من قواعده الشعبوية مع مرشح العامية الإخوانية السائدة. بمعنى أن الدولة المصرية القادمة هي عينها باقية بجسدها البيروقراطي المعهود منذ فرعون الأول، وإن كان رأسها ستغطيه قبعة عسكرية أو عمامة مشيخية. وفي هذه الحالة سوف تخترع الثورة لذاتها خطابات تحت عنوان المعارضة المدنية. ستكون لها مهمة الحفاظ على الاختلاف الوحيد المتبقي من عصر ‘ميدان التحرير’، وهو قدرته على استقطاب الغاضبين إزاء كل معصية يرتكبها أي حكم قادم في حق الحريات العامة، بعد أن تقلّدت الجماهيرُ مفاتيحَ هذه الحريات منذ فجر الثورة، وإن لم تفتح كل الأبواب الصدئة الموصودة في وجهها، فالصراع لا يزال في عتباته الأولى يحبو ضعيفاً أو يشتد عنفياً غاضباً، والمهم أن كل سدّ سيقيمه أي استبداد مهما تنوعت جاهزياته وخطاباته، فإنه لن ينجو من مناجل الجماهير بعد اليوم.. كان ذلك حلماً، لم يعد مستحيلاً.

الديمقراطية الزائفة التي ترعى فصولَها أشباحُ النظام الفرعوني ليست نهاية الدرب الثوري، بل هي من بداياته الملتبسة، فالاقطاع الدهري لن تتهاوى قلاعه بين معركة وأخرى، كذلك لن تفرغ جعبة النكسات من ‘مؤامراتها’ ما بين هزيمة وأخرى؛ لذلك فالثورة محتاجة إلى مؤسساتها الموضوعية، عليها أن تستنفد مرحلة الهيجانات الانفعالية، أن تتغلّب على بداوتها الفكرية بين شتى الاتجاهات، وعلى التسبّب التنظيمي بين صفوفها، لعلّ الثورة قد تتعلم من أخطائها أكثر كلما انخرطت أعمق في خضم التجارب العامة التي أمسى المجتمع يمور في بُحْرانها وسط ذلك الحراك الجماهيري غير المسبوق مصرياً وعربياً؛ إذ ليس لأية نزعة تنظيمية سابقة أو لاحقة عليه يمكنها ادعاء احتكار السيطرة على توجهاته أو نوازعه السياسية والثقافية المتنوعة والمتغيرة من مناسبة صراع إلى أخرى. هذه الظاهرة هي من أخصّ ما يتميز به الربيع العربي كونه جمهورياً حقيقياً في طبيعته؛ فلا يمكن فهمه أو التعامل معه إلا بأساليب جماعية من جنس حراكه الذاتي. لهذا السبب تعاني التنظيمات الحزبية وأشباهها السابقة عليه من صعوبات التلاؤم مع وقائعه العفوية والفجائية، وقد يفشل معظمها في محاولة استيعابه. فإن لم يتح لهذا الربيع فرصة أن ينشئ تشكيلاته التنظيمية من قواه الذاتية وحدها، سوف تتبدد أمواجه الهادرة عبثاً، مخلّفةً وراءها ركامَ الأحلام الكبيرة ممتزجةً بفوضى دمار شامل بائس.

هذا التحول المرضي السلبي لربيع يجتاحه خريفٌ باكر صاعق هو رهان كل القوى المعادية الأخرى لانطلاقته وجموحه العظيم، ضد كل السدود المظلمة القائمة في دروبه، ساحاته المفتوحة في الأقطار الثائرة، هي كذلك ساحاتُ مآزقه الخطيرة؛ فهو في كل قطر مثلما يفجر الظاهرة الشبابية فإنه يفتح ضدها الجبهات الهرمة داخلياً وخارجياً. ذلك هو المشهد النموذجي الذي تفترضه الصراعات البنيوية الجذرية. فالمجتمعات العربية مقبلة على هذا النوع من التحدي المطلق من التغيير إما نحو الحقيقة المشرقة وحدها أخيراً، أو لن يكون بعد الموج الهادر سوى الزبد المتطاير.

لكن التجربة الراهنة لا تزال نائية كثيراً أو قليلاً عن هذه المعاناة الحدية الذروية، وإن كانت معاركها تلامس ضفاف هذه الفواصل القاطعة عبر مواقف ودرجات متفاوتة، هنا أو هناك.. في مصر وسورية، حيثما تتنامى ساحتان لنموذجيْ هذا الصراع شبه الميتافيزيقي الذي لا يكاد يبين عن خير معين حتى يقابله شر أعظم. لكن النتائج التي لا يضمنها أحد، لا تزال بعيدة عن الحسم النهائي، وإن كانت تثبت هذه الحقيقة الأولية وهي أنه قبل الربيع لم يكن سوى الشتاء سَيِّدَ المواسم كلها. بعد الربيع أمسى الشتاء مطروداً مطارداً من الحقول والبيوت، وإن كانت أشباحه لا تزال جوالةً في الخرائب والمقابر.

الاستبداد الفرعوني يحاول تسويغ سيطرته باصطناع التوافق الشكلي مع ديمقراطية الربيع، مرشحاً للرئاسة أحد أقطاب نظامه البائد. وفي الآن عينه تحاول إخوائية تيولوجيا القرون الوسطى أن تحكم مستقبل مصر للقرن الواحد والعشرين، مشرّعة بديمقراطية هذا الربيع عينه، كأنما حصاد هذا الربيع بات لغير أبنائه. أما الاستبداد الأسروي الأسدي في سورية فإنه يقطع الطريق على كل حل، قد يَنتقص شعرةً من سلطانه المظلم. لم يعد لديه وسيلة لمنع نهايته، إلا بافتعال أية نهاية لشعبه، حتى لو راح يشنّ عليه حرب المجازر الجماعية. يكافح الثورة بالمقتلات الأهلية، يرتكب أبشع الفظائع بأجساد الأطفال والنساء، يرسم بذلك صفحة أخيرة من أمجاده الدموية فريدةَ عصرها.

في النهاية، هؤلاء المجرمون السفاحون لن يتوقفوا عند حد، ضاربين عرض الحائط بكل مسؤولية يتصورون أنها ستكون مجلبةً لمعاقبةٍ لن يجرؤ أحد على إيقاعها بهم. لكن بالمقابل ما الذي يجعل ‘المجتمع الدولي’ عاطلاً عن العمل، عن رد الفعل، إلى هذا المستوى من لامبالاة النفاق، الذي سوف يُشرك أصحابه في تحمل التبعات، كأنهم اعطوا القاتل ترخيص القتل المجاني، فصاروا هم أكثر من شركاء لفعلاء الجريمة الكلية عينها، يرتكبون تلك المعصية الكبرى التي يظنون أنه بقدر ما تُرخِّص للقتل، فإنها تعفيهم من كل سؤال أو عقاب، ولكنه قادم مهما تباطأ الزمن في تأجيل وعوده.. العادلة (؟) حقاً..

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى