الرسم بالاصابع المكسورة
الياس خوري
لم يفاجىء الاعتداء الهمجي على الفنان السوري علي فرزات احداً، فالرجل الذي جسّد حلم الناس بحرية وشجاعة، سوف يستمر في اخافة النظام بأصابعه المكسورة. الفنان بجسده الهش الذي يكاد ان يطير وهو يمشي، وبسخريته اللاذعة، قرر ان يكون حيث الشعب، وان يعبّر عن الحرية التي يصنعها السوريات والسوريون بدمائهم المسفوكة. وبذا قدّم درسا بليغاً للوسط الثقافي السوري والعربي في معنى ان يكون الانسان فنانا ومثقفاً في زمن الاستبداد.
رسوم علي فرزات جعلت له مكانة خاصة في الضمير السوري، فالرجل لم يخف على نجوميته لأنها مستمدة من جدارته وفنه وابداعه، عكس نجوميات اخرى فبركتها او روجت لها آلة النظام ومصانعه الثقافية المبتذلة. لذا وجد نفسه خارج جوقة السفهاء التي قادها دريد لحام وابطال ‘الغياب’ الآخرين الذين ينتشون بالقمع، او جوقة الساجدين التي تصدرها جورج وسوف، او جوقة اشباه الصامتين الذين يتغرغرون بالعموميات كي يتجنبوا اتخاذ مواقف واضحة وصريحة.
انتمى علي فرزات الى فنه وكان شرط الاخلاص لفن الكاريكاتير هو الاخلاص للناس والتعبير عن همومهم. وهذا ما يستعصي على الديكتاتور المحاط بالكذبة والمداحين فهمه. لم يستطع النظام ان يفهم كيف خرجت مي سكاف الى التظاهر في الشارع رغم انها فنانة، او كيف كتبت سمر يزبك ما كتبته رغم انها كاتبة، او كيف غنى ابرهيم القاشوش، وكيف يكتب ياسين الحاج صالح وعلي الأتاسي وميشال كيلو وكيف يحكي حسين العودات وبرهان غليون وفايز سارة…
ما لم ولن يدركه النظام الاستبدادي هو ان هؤلاء والكثيرين غيرهم تظاهروا ورسموا وكتبوا اخلاصا لمهنتهم ودفاعا عنها وعن شرفها. هذه هي المعادلة الثقافية الحقيقية التي من دونها لا تكون ثقافة، وكل كلام آخر عن فصل النتاج الفني عن الموقف الأخلاقي هو تهديد لمعنى الثقافة والفن واطاحة به.
في زمن الدم الذي يسيل في الشوارع لا يستطيع المثقف ان يصمت الا اذا تخلى عن مهنــــته ومرّغ شرفها وشرفه في الوحل. وهذا ما لا يستطيعه سوى الآفاقين والسفهاء من الانتهازيين. اما الفــــنان او الكاتب النزيه فانه يجــــد نفسه من دون تردد في صف المقهورين والمضطهدين والمقمــــوعــين. لا يتـــماهى بهم بل يكون جزءا منهم من موقعه ومن خلال نتاجه وابداعه.
هل يعتقد اهل الاستبداد وقادة المافيا في سورية انهم يستطيعون ان يخرسوا صوت الحرية عبر تحطيم اصابع الرسام؟ ام انهم فقدوا قدرتهم على السيطرة على غريزة الدم التي اجتاحتهم، فقرروا ان يلقنوا المثقفين السوريين، من خلال الاعتداء على علي فرزات، درسا في الخوف؟
لا اعتقد اننا نستطيع ان نقدّم تحليلا عقلانيا للاداء الوحشي الذي تمارسه آلة القمع السورية. شيء من هستيريا النهاية يتحكّم بهذا العطش الى دماء الضحايا. عطش لا يرتوي ولا يقود الا الى مزيد من الدم والمظاهرات. منذ لحظات البداية مع اطفال درعا اصيب النظام بالجنون، وفقد قدرته على السيطرة على غريزة الجريمة. لم يكن هذا الاداء الذي استشرى وامتد الى كل المدن السورية مفيدا، لأنه بدلا من اخافة الناس ساهم في كسر جدار الخوف. اي بدلا من ان يلعب القمع دوره في ترهيب الشعب صار تعبيرا عن خوف النظام من الشعب. هذه الثقة بالنفس وبالبساطير والأحذية العسكرية التي تدوس الأجساد والرؤوس، وتجبر المعتقلين على تأليه قادة النظام، ليست سوى التعبير الأخير عن الذعر من الناس، وشكلا وحشيا من اشكال الخوف.
ما اراده شبيحة النظام من اعتدائهم على الفنان علي فرزات لم يكن اخافة الفنان مثلما يبدو للوهلة الأولى، بل كان تعبيرا عن خوفهم من الفنان. الطاغية يخاف من اصابع ترسم، ويرتجف هلعا من حنجرة تغني، ويصاب بالرعب من قلم يكتب. هذا هو مفترق السقوط.
الخائف يفقد قدرته على اتخاذ المواقف العقلانية، وعلى ادارة معركته بشكل يضمن نجاعة اساليبه وفاعليتها، لأنه لا يرى في مرآة بلاده سوى خوفه، وينحدر الى غرائزه ويسقط في الانفعال، وهذا ما جرى مع الاطفال الذين شوهت جثثهم تحت التعذيب ومع ابراهيم القاشوش الذي قطعت حنجرته ثم رميت جثته في نهر العاصي، ومع علي فرزات الذي اعتدي عليه كفعل انتقام اعمى واهوج.
ماذا نقول لعلي فرزات ورفاقه ممن يصنعــــون ملحمة الصمود الكبرى في تاريخ العرب؟ كلمة التضامن معهم صارت باهتة، وموقف شجب الاعتداء عليهم صار بلا معنى، ومناشدة الرأي العام العربي والعالمي صارت مكررة بحيث انها تثير الأسى.
لا نملك ما نقوله سوى اننا نتعلم منهم فضيلتي الشجاعة والنزاهة، نرى فيهم ضوءا واملا واحتمال استعادة المعنى لمعناه.
هناك حين كان علي فرزات يتلقى الضربات بيديه ورأسه وجسده، هناك رأيت ناجي العــــلي وطفله الفلســــطيني ينحنيان على جراح الفنان، ويحتضنان دمه النازف في دمهما الذي يُهدر كل يوم، ويرسمان معه اشارة الحرية فوق الشام وفلسطين.
هناك حين وجد الفنان نفسه محاصرا بالعصابات التي تمتهن كرامة الشعب السوري كل يوم، شعر بقوة الفن وضعف المجرمين، قال لهم ان يخافوا، قال ان كل هذه الدبابات لن تحميهم من مطر الربيع الدمشقي، قال لهم ان ينسحبوا قبل فوات الآوان.
وحين استفاق في المستشفى ورأى الضمادات ضحك من جبنهم، اخذ ورقة ورسم عليها صورة يديه، موجها اليهم تحية الوداع.
القدس العربي