الرقة السورية.. تورا بورا جديدة/ علي العائد
بدأت طائرات الدول المتحالفة في محاربة داعش، فجر اليوم الثلاثاء، بضرب مواقع مفترضة لداعش في كل من الرقة، والطبقة، ومعدان، وتل أبيض، بالإضافة إلى مواقع في دير الزور.
وأجمع الناشطون على الأرض أن المناطق المستهدفة خالية من أي داعشي، كون تنظيم “الدولة اللا إسلامية” مُنح الوقت الكافي لإخلاء كافة مواقعه المدنية والعسكرية.
بين الرقة السورية، وتورا بورا الأفغانية، مشترك أعظم هو فكر القاعدة.
تنظيم الدولة القاعدي يحتل الرقة الآن كواسطة عقد لـ “الدولة اللا إسلامية”، ونظام طالبان يستقر هناك حتى بعد 13 سنة من حرب أمريكا وحلفائها على أفغانستان، وكلاهما خرجا من رحم القاعدة، ولا أهمية لما قد يتحدث عنه بعض المحللين عن أي تمايزات نوعية هنا بين طالبان وداعش.
تعني “تورا بورا” بالعربية “الغبار الأسود”، وفق موسوعة ويكيبيديا. وهي منطقة شرقي أفغانستان تتبع ولاية ننكرهار، وحدثت فيها بين أواخر عام 2001 وبداية 2002 معركة تورا بورا بين القوات الأمريكية والألمانية والبريطانية والتحالف الأفغاني الشمالي من جهة، ومقاتلي طالبان وأسامة بن لادن الذين تحصنوا بجبالها الوعرة من جهة أخرى.
أما الرقَّة (بتشديد القاف وفتحها) التي تمثل عاصمة داعش، الموقتة على الأقل، فيعني اسمها الغضار الذي يترسب بعد انحسار مفيض النهر، وبعد أن يجف الغضار يتشقق تحت أشعة الشمس الحارقة، فتدعى الواحدة منه رقَّة، والجمع رِقاق.
لا تشابه على الإطلاق بين جغرافيتي تورا بورا والرقة، وأفغانستان والرقة، عموماً، لا من حيث التضاريس، ولا من حيث طبيعة النشاط الاقتصادي والاجتماعي للسكان، ولا من حيث أصولهم العرقية.
مسلمو الرقة هم 100% من السنة، يتوزعون بين عرب وكرد وشركس، مع وجود عائلات قليلة مسيحية مشرقية عربية، أو ذات أصول أرمنية.
داعش وطالبان في “الفقه” تنتميان إلى النسخة القاعدية، فكلاهما تحطان من قيمة الإنسان في المكانين دون اعتبار للزمان في الإسلام، ودون أدنى فهم لتغيرات الزمان بعد أكثر من 1435 سنة من عمر الإسلام.
توصف الممارسات الدينية لسكان الرقة بالاعتدال، حتى مقارنة مع اعتدال الممارسة الدينية في حلب وحماة ودمشق، مثلاً، وتشبه ممارسات المسلمين فيها ما يجري في دير الزور القريبة منها لجهة العراق، حتى إن بعض أهالي الرقة يصنفون أنفسهم من الأعراب، تذكيراً بالآية الكريمة “الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم” (التوبة – 97). ويأتي ذلك دلالة على ضعف إيمانهم، حتى أن عاداتهم وتقاليدهم مختلطة بين الممارسات الدينية للسنة عموماً، والمذهب الحنفي خاصة، مع وجود بعض الشافعية، وتمثيل ضئيل العدد لمتبعي المذهب الحنبلي.
أما ظلال العادات الشيعية التي كانت تمارس حتى ما قبل سنوات في مآتم القرى تحديداً، فتعود إلى أن الرقة متصلة عشائرياً وقبلياً مع العراق، دون أن ننسى أن موقع معركة “صفين” يبعد عن مدينة الرقة حوالي 35 كم شمال غربي الرقة، وهنالك أضرحة للصحابة الذي قضوا في صفين لاتزال مقصداً للزوار من السنة، وحديثاً من الزوار الشيعة، وأشهرها ضريحا الصحابي عمار بن ياسر، والتابعي أويس القرني.
ومن العادات الشيعية التي كانت متبعة في الرقة اللطم بالأيدي على الصدر والوجه عند النساء في ما يشبه التطبير عند بعض الشيعة، وقص الشعر بالسكين، وخدش الوجه بالأظافر حتى يسيل الدم منه، والبكائيات الحسينية بتنويعاتها على الطريقة السنية الأقل تراجيدية من تلك الشيعية.
وتورا بورا، التي خفت ذكرها في الآونة الأخيرة، وريثة الإسلام السلفي الذي لم يدخل الرقة إلا متأخراً أواسط ثمانينيات القرن قبل أن يقمعه نظام حافظ الأسد في مهده.
الآن ومع صعود داعش المثير يتردد السؤال: لماذا سقطت الرقة بسهولة في قبضة داعش، وتمددت بعدها مناطق نفوذهم إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب، حتى تكاد الرقة تتوسط الآن ملكاً كبيراً من الأرض؟
ما الذي جعل محافظة سكانها يفوقون 1.2 مليون نسمة يستسلمون لعدد لا يتجاوز بضع عشرات الآلاف، وحتى بعد استقطاب عدد كبير من مقاتلي التنظيمات الأخرى لا يتجاوز عدد الدواعش السوريين والمهاجرين الخمسين ألفاً؟
الجواب يبدأ من بديهية أن السلاح يتفوق على الأعداد كونه يمثل القوة العمياء، ولا ينتهي بأن داعش استخدمت القوة المفرطة في إخضاع الناس، بل وإرعابهم من ممارساتها باستخدام “تقنية” قطع الرؤوس.
أما في الأسباب الكامنة، فسنجد أن الرقة كانت مستسلمة للنظام الأمني السوري بشكل أشد قليلاً من استسلام المحافظات السورية الأخرى أيام استتباب الأمن لنظام بشار الأسد، ولنظام أبيه قبله، كما أن النسيج الاجتماعي العشائري الهش في الرقة ساعد داعش في سهولة سيطرته على الرقة.
وبالجملة، لم تجد داعش قوة حقيقية تجابهه وتؤخر سيطرته على الرقة التي تبلغ مساحتها 19.62 ألف كم2، أي 11% من مساحة سوريا البالغة 185.180 ألف كم2.
الرقة كانت مهملة من النظام إلا في جباية القمح والأقطان وحقل بترول صغير قرب الرصافة جنوب الرقة. ولسوء حظ المحافظة أنها تقع بين محافظات أهم منها نسبياً في استراتيجية النظام في مجابهة الثورة، فمن الشرق محافظة الحسكة، وضمنها القامشلي ذات الأغلبية الكردية، والواقعة على الحدود مع كل من تركيا والعراق، ومن الجنوب الشرقي محافظة دير الزور الواقعة على الحدود العراقية، وفيها أغزر آبار البترول في سوريا، وقطعات عسكرية أهمها مطار دير الزور، ومن الغرب حلب وحماة وحمص، وكلها محافظات هامة ذات تأثير كبير في معركة البقاء بالنسبة للنظام.
وربما كان تفضيل كل من النظام والمعارضات المسلحة تأجيل السيطرة على الرقة يأتي من اتساع المحافظات وعدم امتلاك أي من الطرفين العدد الكافي من الجنود لتأمين المحافظة، لذا فضل الطرفان تركيز جهده على المحافظات الأهم في انتظار حسم المعارك هناك ثم الالتفات إلى تورا بورا (الرقة)، وهو ما أتاح لداعش السيطرة عليها بسهولة وبعدد قليل من المقاتلين، خاصة أن هم داعش تأسيس “الدولة اللا إسلامية” وليس في وارد استراتيجياتها – إن وجدت – تحقيق أهداف الثورة التي وضعت سوريا في مهب الضياع منذ ما يزيد على أربعين شهراً.
موقع 24