الرقة: مجزرة الفكاهة
محمد عبد العزيز
سألني صديقي : كيف الوضع في الرقة كأول مدينةٍ محررة ؟ هل ستكون مرآةً لسوريا الجديدة ؟
قلت له “لا تسألني عن الكثير، فليس هنالك ما أجيب عنه، ولكن أستطيع أن أختصرها بكلمتين: الفكاهةُ النائمة “.
ضحكنا قليلاً، ثم بدأت بالبحث عن مجريات تلك الكلمة، أتلك الفكاهة بسبب البرميلين اللذين ألقاهما طيار تعود القدوم يومياً، ليقوم بجولته مراقباً من الأعلى، لكنه اخترق زيارته اليومية بمجزرة راح ضحيتها سبعةٌ من المدنيين، والعديد من الجرحى، لتدخل منطقة المجمع الحكومي سجلا للمجازر ملَّ التدوين.
أتكمن الفكاهة ببراميل الأسد التي تذكرنا كلما نسينا بحقدٍ مخبأٍ باسطوانة؟
أتكمن الفكاهة بموقع سقوطهما، على بعد أمتار من حركة أحرار الشام الإسلامية، أكبر الحركات المسلحة هنا، والمسيطرة تقريباً على كل شيء، وغير المهتمة بمعاناة الناس، الذين لم يخسروا من مبناهم الموروث من المخابرات الجوية سوى قليل من الزجاج؟ أم بالناس الذين كان كل ذنبهم أنهم تاقوا إلى كلمة الحرية، وممارسة غريزتهم في البقاء في متاجر ارتبطوا فيها، حتى أتت تلك الأسطوانة لتحوّل السوق إلى مدينةٍ أثرية؟
ما بال عزرائيل؟ أهو أيضاً يخاف السلاح؟ حتى يكون كل الضحايا من المدنيين!!
أتكمن الفكاهة في الكتائب التي نسيت بعد دقائق هول الفاجعة، وعادت إلى روتينها المقرف بالتعليق على المفجوعين بوجوب ارتداء لباس شرعي يستر عوراتهم ؟؟
كم تحزنني أنت أيها المدني وأنت تستقبل خبر الموت، ودرساً في الأخلاق في آن واحد.
ماذا ستقول لذلك المجاهد على باب المشفى الوطني؟ أستجيب كما أجاب صديقي الذي لطالما انتظر قدوم المجاهدين ليفاجأ بجندي جبهة النصرة يمنعه من دخول المشفى ليقف على اطلال جثة رفيقه الذي تعود معه على تنظيم المظاهرات ضد الاسد ؟
أستصب جام غضبك عليهم انت ايضا وتقول لهم اغربوا عن وجهنا؟ اذهبوا الى الفرقة قبل ان تطلبوا مني التستر واطالة بنطالي! تستروا انتم ايضا!
لتطرح تلك الحادثة سبباً جديداً للفكاهة:
أتكمن الفكاهة في الفرقة ١٧، التي أطال صراعها ضجراً بهرجه؟ كل يوم نستفيق على بشارة أصبحت مأساة، كل يومٍ يوقظني زميلي عند الساعة الخامسة صباحاً، ليعطيني جرعةً من الفرح مللتها “اليوم ستتحرر الفرقة”.
لعلّه ناشطٌ متفائل !
ذهبت إلى الكتائب داخل المدينة لأستجدي جواباً لعلي أقل فرحة صديقي، لم يصدموني، واقعهم افتراضي يتشابه كثيراً مع صفحاتهم الترويجية على شبكات التواصل الإجتماعي، لا يختلف حديثهم كثيراً عن منجزات الحركة التصحيحية، تلك البروباغندا عن العصافير المزقزقة، وتحريرهم الافتراضي الذي سوف يتم بغضون ساعات.
تخيلت لوهلة أنني أمام بعثي عتيق يحدثني عن حرب الاستنزاف، مع تغيير بضع كلمات، ف”رسالة خالدة” أصبحت ب”مشيئة الله” ..
أتكمن الفكاهة بأن الحرب مع النظام، تتم بقواعد وعقلية النظام؟
عدم ثقتي المسبقة بتلك البروباغندا، أخذتني برحلةٍ أسميتها “رحلة كشف الخديعة الكبرى”، ذهبت إلى هناك، إلى الفرقة، عند “المرابطين”، لأستجدي جواباً لصديقي، وجدتهم صفوفاً من الشطرنج، لا تعرف متى تتغير وجهة الرصاصة من الأمام إلى الخلف !
فأكبر الحركات المرابطة وهي من التيارات الإسلامية، تحاول جاهدةً السيطرة على المعركة وإخراج الآخرين منها قبل السيطرة على الفرقة. يا لذلك المجاهد البائس الذي يسعى جاهداً إلى الفوز بالحوريات في حين ذلك الأمير المرابط على المائدة فوق فراشه الوثير، يسعى جاهداً إلى الفوز بالغنيمة، التي كانت في أيامٍ سابقة رغيفاً من خبز ناسٍ جوعى.
كم أضحكني وأبكاني ذلك القائد الذي يرابط دون الكثير من الذخيرة، ليستجدي النصر ولا شيء غيره. وهذا، فلا دعم له، ولا ذكر له، ولا ظهر له، إلا ظهره القوي الذي اعتاد به على قتال الأسد.
عدت أدراجي، وأنا أجر أذناب الهزيمة. آسف يا صديقي لن استطيع أن أجيب على سؤالك ..
لعلهم كانوا على حق. إنها مشيئة الله، ولكن ما استطيع الإجابة عليه هو إن تلك المعركة لا تندرج تحت أجندة الثورة السورية، لأنها حرب الأقوياء.
حربٌ وجوديةٌ لا دخل لنا بها.
انتهى نهاري كما عهدته، على ضفاف الفرات العظيم، لأسأل مرتبطاً روحياً فيه:
إلى أين يأخذني هذا النهر؟؟
قال لي: لا أعرف، لكنني سأبوح له بالأرق، بالعدم المدرج على قائمة الطعام، لنستنشق كيماوياً يبثه جشع يتاجر بالنفط، وذلّاً نرضعه من أخوةٍ إعتقدنا يوماً أنهم مجاهدون، وفرحٍ مصطنعٍ لنصرٍ على صراعٍ لم نفهمه، ولم نرتبط به. أترى صديقي قتل اليوم دون الجميع لأنه كان جسراً لدخول ذلك الأخ ليسرق ما تبقى لدينا من مالٍ وكرامةٍ مهدورة؟
أدمعت عيناه واعتصر ندماً ، عاد إلى الواقع وقال :
لكن في النهاية يأتينا الموت ببراميل الأسد التي تقتلنا من الداخل إلى الخارج، مكملةً الصورة الناقصة .
المدن