الرقص بين القبور
عقل العويط
لبنان يصرخ. سوريا تصرخ. العراق يصرخ. مصر تصرخ. تونس تصرخ. ليبيا تصرخ. البحرين. واليمن أيضاً. هل هناك بلد عربي إلاّ وقد أطلق شعبُه الصراخَ الثائر لأنه لم يعد يستطيع تحمّل فظائع النظام الاستبدادي العربي، ولأنه في الآن نفسه لا يريد أن تصادَر دعواته إلى الثورة والحرية، على أيدي زبانية الظلاميات والديكتاتوريات البديلة والممنهجة؟
ها سنتان تمضيان على آذار الثورة السورية 2011. قبل ذلك بثلاثة أشهر، كانت ثورة مصر اندلعت في 25 كانون الثاني وسقط مبارك في 11 شباط. قبل الاثنتين اشتعلت ثورة تونس في 17 كانون الأول 2010 وانتصرت في 14 كانون الثاني. نتائج كثيرة ظاهرة للعيان والعقول، بعضها الأكثر لا يزال في مخاضه الغامض والمقلق والعسير. في مقدّم هذه النتائج، السقوط التاريخي العظيم للتابو الاستبدادي العربي، الذي لن تتوقف نتائجه ومفاعيله وارتداداته الإيجابية عند حدّ معيّن، مهما تكن الأحوال الراهنة مشوبةً في بعضٍ منها بالخيبات والمرارات والمخاوف المتوقَّعة.
نحن الكتّاب، ماذا نفعل حيال هذا الراهن العربي الخطير؟ هل نصمت؟ هل نتحايل؟ هل نوارب؟ هل “نتكيّف” مع الظروف والمعطيات الراهنة، وننحني أمام رياحها؟ لا، قطعاً. فها نحن بالصوت الجهير نصرخ، على رغم حدسنا بمآلات ما قد يواجهنا من لبنان إلى سوريا ومصر وتونس وسواها: أيتها الشعوب العربية المسروقة أحلامها والمهيضة، استمرّي في ترسيخ معالم الرفض الديموقراطي النقيّ، وضاعِفي هذا الصراخ الوجوديّ العميم، إلى أن يتبدّد الليل، الذي لن ينتهي إلاّ بتمزيق حجبه الحالكة تمزيقاً نهائياً. ولن يمزّق هذه الحجبَ إلاّ الصراخُ القياميّ الذي يجب أن يظلّ يحفر عميقاً في ضمير الذات والواقع الموضوعي والعالم، مردِّداً أن الماضي لا يمكن أن يستمر في الحاضر.
على الأرض، لا تزال الشعوب العربية التي غضبت وثارت على حكّامها وأنظمتها، غاضبة وثائرة، وإنْ جريحة، وخصوصاً في سوريا ومصر وتونس. على رغم الأهوال والأوجاع الهائلة التي تُمنى بها، هي تواصل قرع الأبواب والجدران الصلدة وتحدّي آلات القتل اليومي الجماعي، صارخةً صرختها التاريخية العزلاء. حتى ليظنّ المرء أنه لم يعد ثمة صراخٌ لم يُصرَخ بعد. لكأن الماضي يثأر لنفسه من العار الاستبدادي الذي لحق به. والحاضر لم يعد يريد أن يظلّ ماضياً، بل ها هو يصبح البداية، بكلّ ما تنطوي عليه البداية من مخاضاتٍ متعسّرة، لكنْ ملأى بمشقّات الأمل وتحدياته. الأرض، ما تحتها وما فوقها، تئنّ وتزأر غضباً وتمرّداً، ليتردّد أنينها والزئير في بواطن الوجدان، وفي طيّات الأمكنة والأزمنة. فمَن منّا لا يشعر الآن بالرهبة أمام هذا الصراخ الذي يبدّد جبروت الصمت وكوابيسه؟ ومَن منّا لا يجرفه هذا الصراخ إلى حيث يشعر بأن الزمن يوازي زمن القيامة من القبور الباردة الصمّاء إلى فسحات الشمس والحياة والحرية؟ وفي الآن نفسه، مَن منّا لا يشعر بالخوف على المصير؟
يجب أن نعترف بأن الواقع الموضوعي يبدو أشدّ فداحةً وهولاً مما تصوّرناه وحلمناه. وكذا يقال عن النتائج الآنية التي آلت إليها الثورات والصرخات. فها هي الأوضاع الداخلية العربية، تتخذ في الغالب الأعمّ منحىً استبدادياً وظلامياً مضاداً، وها هو العالم كلّه تقريباً، وخصوصاً “المتحضّر” منه، يحاول “استيعاب” التغيرات التاريخية الجارية بما يساهم في شلّ حركة القوى المدنية والديموقراطية، وتقليص دورها وفاعليتها، وبما يفضي عملياً إلى صعود القوى الإسلاموية المتطرفة، وتأجيج مختلف أنواع السعير الديني والمذهبي والإتني، متحصّناً بإيديولوجيا الانتهاز السياسي، القائمة على المصالح والحسابات والتسويات القاتلة. لكأن هذا العالم أشبه بحجر غرانيت، بلاطة قبر، بل أشبه ما يكون بالوحش العارف. فهذا العالم يُصمّ آذانه عن الصراخ العربي، السوري – المصري – التونسي خصوصاً، الذي لا يطلع من الأفواه بل من الأحشاء الجماعية. فهو لا يريد أن يسمع إلاّ ما يريد أن ينصت إليه، بما يتوافق مع أولوياته وأنانياته ومصالحه الكلبية.
أبواب الجحيم السورية والمصرية والتونسية مفتوحة على الغارب. في سوريا، النظام يمعن في التدمير والقتل الهمجيين، تيمّناً بنظرية “عليَّ وعلى أعدائي (شعبي) يا ربّ”. قوى التغيير الديموقراطية الخلاّقة تواصل مسيرتها الأعجوبية المزدوجة ضد النظام الديكتاتوري وشبّيحته من جهة، وتمايزاً عن الاتجاهات المتطرفة، التكفيرية والمسلحة، من جهة ثانية. نحن نصرخ، تحديداً، مع القوى التغييرية العميقة، وتأييداً لها: نريد المعجزة البطلة التي من شأنها أن توقف هذا القَدَر الأعمى الذي تؤخَذ إليه سوريا. السوريون الديموقراطيون المدنيون العلمانيون المناضلون المفكّرون الشعراء الكتّاب المثقفون الفنّانون والمواطنون العاديون، لا يلينون ولا يستسلمون، بل يزدادون اجتراحاً على الأرض – وهذه هي بطولتهم الخارقة – منتزعين كلّ يوم استحقاق الحياة والحرية والكرامة، وهم سيظلّون يفعلون ذلك إلى أن تنتصر سوريا بهم.
أما في مصر فيمعن النظام “الإخواني” الجديد وزبانيته وحلفاؤه، في جرّ البلد العظيم إلى أتون التفكّك والتزمت الديني، محصّناً بجحافل الفتاوى الظلامية المغرقة في التخلف. وكذا نقول عن تونس التي تفعل حركة “النهضة” فيها ما لا يُفعَل، من أجل دفع البلد العلماني الأخضر إلى القاع المظلم.
هل نقول: ما أبشع ما انتهينا إليه، وما أبشعكَ أيها العالم؟! أكثر ما نخشاه، بعد قليل، عندما يستعر الحريق في مصر، أنه لن يعود في الإمكان وقف اشتعاله. وعندما تصبح سوريا شبيهةً بالأرض الخراب، ويلحق بها لبنان، لن يفيد أن يهرع زعماء العام “الحرّ” بعد فوات الأوان، للتعبير عن الرغبة في تقديم المساعدة إلى الشعبين السوري واللبناني.
في “لبنان العظيم” تستولي سلطاتٌ وقطعانٌ وقوى سياسية ودينية على زورقه المثقوب، أما العدم الأبله فيتحكّم بأطرافه المهووسين بفتات السلطة، وهم يخوضون حرب وجود، إما تأييداً لنظام الحكم في سوريا وللحلف السوري – الإيراني، وإما انخراطاً ظلامياً أخرق ضدّ هذين النظام والحلف، بالتزامن مع “حرب وجودٍ” ثانية مواكِبة، انطلاقاً من مشاريع قوانين متخلّفة ومهينة وعقيمة للانتخابات. قبّحهم جميعاً.
فماذا نفعل بلبنان هذا، المتساقط كالشلو، وما الذي يجب أن تجترحه القوى المدنية والديموقراطية لإنقاذه، هذه التي لن يستطيع أحدٌ أن يستولي عليها، ولا أن يجيّرها لنفسه، أو يحشرها في ركابه؟ وسوريا، كيف نساهم، ولو بتواضعٍ كلّي، في منع دمارها البلا حدود؟ وأمّ الدنيا، هل تُترَك فريسةً في أفواه سرّاق الدين والدنيا؟ وتونس؟ والعراق؟ وفلسطين… هل فلسطين موجودة في حسابات العرب؟
نحن أبناء الطريق الثالث، وفَعَلَته، وصنّاعه، وحرّاسه، نعتقد – بفروسية مترفّعة، وبكبرياء غير مبالية بصكوك الاعتراف والشكر والعرفان، ومستخفّة بتلقّي المدائح أو بطلبها – أننا لا نحتاج إلى شهاداتٍ مستجدّة في الوطنية والعلمنة والدفاع عن الحرية والديموقراطية وثورات الشعوب وحقّها في الكرامة المطلقة. ثمة الكثير الكثير في أيدينا وكلماتنا، نواصل به وقوفنا التاريخي المتراكم، العملاني المعنوي الأخلاقي والثقافي، وبلا هوادة، إلى جانب الشعب السوري الثائر، وكلّ الشعوب العربية الأخرى. نحن متهيّبون للغاية. وإذ نعلن التهيّب، ونمارسه، بعيداً من الغوغائية والعربدة اللفظية والغريزية والقطيعية، يسعنا على “سنّ الرمح” أن نقف قطعاً ضد النظام الديكتاتوري، وأن نشدّد في الآن نفسه على ضرورة عدم السماح للوهن بالاستيلاء على القوى والاتجاهات المدنية والسياسية والثقافية والأهلية والشعبية الثائرة في العالم العربي، وخصوصاً في سوريا ومصر وتونس. فالأحوال المغموسة بالوجع الكبير، نعرف أنها لن تحمل هذه الشعوب على اليأس، ولن تحرفها عن أهدافها المركزية، مهما تكاثر الأعداء في الداخل والخارج، وهم كثرٌ للغاية. وعليه، لا يسعنا أن نرتدّ على أنفسنا، وقيمنا وأحلامنا ومفاهيمنا الثقافية والديموقراطية، ولا أن نعود إلى الوراء.
ولنقلْ لهؤلاء الأطراف اللبنانيين الأقزام: ما أقلّكم يا هؤلاء! لبنان يترنّح، وأنتم تشربون الدماء وترقصون على قبره. بعد قليل، هذا القبر الذي ترقصون فوقه، سيغرق في الدماء والتفكك والتفسخ والعفن… وستكونون طعامه النتن!
هذا القبر الذي تعربدون فوقه، سيكون مقبرتكم، ولا بدّ!
النهار