“الرقيب الخالد” لزياد كلثوم/ تهامة الجندي
انحياز لسلمية الثورة وحق السوريين في الحياة
للجيش منّزلة خاصة في تشكيلات الدولة السورية، على اعتبار أن البلد مهدّد ومُقاوم، بحكم جواره لكيان العدو، منزلة بدأت من التبجيل في النشيد الوطني “حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تُذل النفوس الكرام” وانتقلت إلى الخدمة الإلزامية، المفتوحة الأمد، والمفروضة على كل مواطن ذكر. وتوسعت لتطال طلاب المرحلة الثانوية بفرض الزيّ العسكري الموحّد عليهم، ومادة الفتوة، ودورات الشبيبة الصيفية للتدريب على المبادئ الأولية للعسّكرة. مرورا بالامتيازات الكبيرة التي تتمتع بها الرتب العليا من الضباط وما فوقهم، انتهاء بالميزانيات الهائلة التي اقتُطعت من خبز الملايين، لتغطية نفقات تدريب هذا الجيش وتسليحه وبناء ترسانته الحربية، بما فيها الأسلحة الكيماوية، حتى غدا واحدا من أقوى جيوش المنطقة العربية.
جيش كان يعتز به جميع السوريين، قبل أن يصوّب رصاصه على صدروهم في بداية التظاهرات السلّمية 2011، وتستوطن وجدانهم طعّنة الغدر، وهم يرون شباب وشابات سوريا يسقطون قتلى في الشوارع، لا لذنب سوى أنهم طالبوا بالكرامة والحرية، الطعنة العميقة التي تُرجمت بشعار المتظاهرين “اللي بيقتل شعبه خاين”، وأغنية سميح شقير الرائعة “يا حيف”، يومها كانت الفاجعة أعّتى من أن يصدّقها عقل، دفعت بالعديد من عناصر الجيش أنفسهم للتمرد على الأوامر “فكيف يقتلون من أقسموا على حمايتهم…؟! ” وكان عقاب المتمردين التصفية الفورية، إلا من استطاع منهم أن يلوذ بالفرار خارج الحدود أو داخلها، ذلك قبل أن تتشكل نواة الجيش الحر، ويصبح الرصاص مزحة أمام طائرات النظام ومدفعيته وراجمات صواريخه، التي فتحت نيرانها على المدن، وفوق رؤوس العباد، وغدت عنوان الرعب والذهول الذي أصاب المواطنين في السنة الثانية من عمر الثورة السورية، ولا تزال مع إضافة فصل الأسلحة الكيماوية بدخول السنة الثالثة.
أسوق هذه المقدمة التي بات يعرفها الجميع، للإشارة إلى حجم الصدمة التي اعترت المدنيين والعسكريين، من جراء زج القوّات المسلّحة في قمع المتظاهرين السلّميين، لأنها تشكّّل الخلفية الدراماتيكية، وسيرة ما قبل البداية، التي ينطلق منها فيلم زياد كلثوم الوثائقي “الرقيب الخالد”، الذي افتُتحت أول عروضه في سينما أبراج ببيروت. فالفيلم يرصد الحياة في دمشق عام 2012، من خلال عيون رقيب يؤدي خدمة العلم الإلزامية، هو نفسه المخرج الذي يعلن في نهاية المطاف انشقاقه عن الجيش السوري النظامي، وعدم التحاقه بكتائب الجيش الحر، مؤكدا أن الكاميرا هي سلاحه، والمفارقة أن العرض تزامن مع بدء بعثة المفتشين الدوليين بتفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية في سوريا.
يبدأ الفيلم بكادر مائل لغرفة متواضعة، تلتقطها عدسة جهاز خليوي، تستوي الصورة، وتتابع قدمين بحذاء، تخرجان إلى الشارع، تقطعان مسافات جرداء، يحدّها سور، كُتبت عليه شعارات البعث: وحدة، حرية، اشتراكية، يتحوّل الحذاء إلى بوط عسكري، يخبط الأرض، ويسمع دويّ الانفجارات، تصل القدمان إلى الثُكنة، تجول عين العدسة على الجدران، متداعية، لكنها مليئة بصور الأسرة الحاكمة: الأب والإبن وأخيه، ومن خارج الكادر يقول صوت: “أنا الرقيب زياد كلثوم”، ويُغلق المشهد على جندي يلقّم المدّفع، وتنطلق القذيفة من الفوهة، وبإمكاننا أن نتخيّل حجم المجازفة التي قام بها المخرج أثناء التصوير داخل الثُكنة بعدسة هاتفه النقّال، في ظل المنع البات لاستخدام أي من أجهزة الاتصال.
في الشارع يرن جوّال الرقيب، ونسمع صوت رجل يسأله، إن كان بإمكانه الالتحاق بفريق التصوير، ويجيبه الرقيب أنه سيأتي بعد أن ينهي دوامه في الثُّكنة، ينتقل المشهد إلى المخرج محمد ملص، وهو يستعد لبدء تصوير فيلمه، ومنذ تلك اللحظة سوف يضع الفيلم ترسيماته الأساسية على أربعة محاور متوازية ومتداخلة، هي: الخدمة الإلزامية، طاقم التصوير، الحوارات ومحور الإعلام، وعلى الرغم من عدد الشخصيات الكبير الذي تتابعه الكاميرا، من النخبة المعروفة ومن العامة، فلن نقرأ على الشاشة أي اسم أو تعريف لأي منها، سوف يتقدم معظمها باسمه الأول، حين يُنادى عليه، وسوف نتعرّف على مهنة الشخصية من خلال ما تقوم أو تدلي به داخل الكادر، وهي علامة الفيلم الأولى: شخصيات بلا أسماء كاملة، أو ألقاب، تكتفي بكينونتها الإنسانية، وبالقاسم المشترك الذي يجمعها، مواصلة العيش في أقدم عاصمة مأهولة، تقطع أوصالها متاريس الأجهزة الأمنية، وتغطي سمائها الطائرات.
في محور الخدمة الإلزامية، يقتصر التصوير على المشاهد الداخلية، العدسة ترصد فوضى المكان، ومظاهر الإهمال والبؤس والطغيان، الأرضية متسخة، وعلى الطاولة ركام من الأوراق والملفات، الطعام بيض، والمشروب متة، الأسلاك الكهربائية تتدلى خارج العلب، الجدران مغطاة بصور قادة الأبد والشعارات، وصوت الإعلام السوري، يشكو المؤامرة الكونية التي تقوّض عزيمة الشعب.
في المحور الثاني لن نعرف عنوان الفيلم الذي يقوم بإخراجه ملص، لن نتعرّف على القصة، ولا الشخصيات، ولا المصير الذي آل إليه، سوف نتابع فقط بعض المشاهد المقتضبة والمتفرقة التي يجري تصويرها، وتتقاطع مع حال السوريين ذاك الحين: شاب يصعد أعلى السلم ويصرخ، غسان جباعي يمثّل دور شخص تعتقله المخابرات، امرأة مسنّة تسير نحو النافذة، وتقول: الطبيبة ماتت، وفي المقابل سوف يرصد هذا المحور المعوّقات التي تواجه فريق العمل كل يوم، من صعوبة الوصول إلى أماكن التصوير بسبب الحواجز الأمنية والقصف، إلى منع الفريق من التصوير في بعض المناطق، ومن ثمة إيقاف عمله بسبب الوضع الأمني المتدهّور، ومن اعتقال أحد أعضاء الطاقم من غرفته في الفندق، إلى صوت الحوّامات والقذائف الذي يشوّش على أصوات الممثلين وأدائهم، فيغدو الأمر أشبه بمهمة مستحيلة، تحاكي رحلة العذاب اليومية التي يكابدها كل سوري في الطريق إلى مكان عمله، أو قضاء حاجاته.
المحور الثالث التقطته عدسة زياد كلوم أثناء عمله مع محمد ملص، صوته يسأل من خارج الكادر، والشخصيات تلتفت نحوه وتجيب، والارتجال سيد اللقطة. عيّنات مختلفة من البشر، ممثلون وتقنيون من ضمن الطاقم الفني وملص نفسه، أشخاص عاديون يتابعون مجريات التصوير، وآخرون ساقتهم المصادفة إلى المكان… في كثير من الأحيان لا نسمع السؤال، لكن معظمهم يبدأ الكلام ذاهلا، وبقدر شديد من التحفّظ، وفي لحظة يكسر خوفه، يبوح وربما ينتحب، كروان قُتل ابنه في المعركة، ويدمي قلبه أن يهلك الجيش السوري نفسه بنفسه، الحاجّة النازحة شيّعت أولادها في حمص، الشاب فقد والده في المعتقل… سجن كبير والجنازات لا تنتهي، وتقول جود كثرواني للعدسة التي تتبعها وهي تسير: “وثّقي دمشق، قد تحترق غدا”… وحدها زوجة الضابط تتحدث بتحد ووعيد، عن بطولات شريكها في إبادة الإرهابيين، وعن ثقتها التامة بانتصار أفضل قادة العالم عليهم… تبرّر قتل المدنيين، وتدافع عن القاتل.
وبين يوميات الرقيب في الثُكّنة وأثناء التصوير، كانت الأخبار المتلّفزة على قناتي العربية والجزيرة، ترصد عدد القتلى وحجم الدمار، بينما كانت الفضائية السورية تمجّد الجيش الباسل، وتدعو الشباب للالتحاق في صفوفه، لينتهي المحور الرابع بمشهد الجثث من الفريقين المتحاربين، النظامي والحر، ويختم الفيلم تفاصيله بإعلان صك البراءة من كلا الطرفين، منتصرا لسلّمية الثورة، وحق السوريين في الحياة.
قدّم الفيلم وثيقة حارة عن حياة عاصمة تحّتضر، وأناس يقاومون الموت، في مشاهد تلقائية، بعيدة عن العنف الذي يحصد الأرواح، قريبة من الألم الذي يسكن القلوب، مشاهد لم يُمارس المخرج سلطته عليها، ولم يقّحمها بأشرطة الفيديو المسرّبة عن هول ما يجري، بقدر ما صبّ جهده، اللافت للانتباه، على توليف اللقطات الوثائقية، ورصفها في سياق درامي تصاعدي، يوازي دراما الواقع السوري بتجلياته المختلفة، فعل ذلك بحذاقة كاتب يصفّ المفردات في جمل تكتسي بالكنايات، وتفيض بالمجاز المفتوح على الأسئلة والتداعيات.
المستقبل