الرقّة… متى؟/ سمير العيطة
أطلق «داعش» حملة أعمال إرهابيّة خارج سوريا والعراق، تجسّدت مؤخّراً بالاعتداءات الانتحاريّة في مطار مدينة بروكسيل وقطار أنفاقها. وتزامنت هذه الحملة مع تراجعٍ مستمرّ لـ «داعش» في العراق ومع ترسيخٍ تدريجيّ للهدنة بين الجيش السوري وحلفائه من جهة والمعارضة المسلّحة من جهة اخرى، وبوادر تقدّم للعمليّة السياسيّة في جنيف.
لا تأتي قرارات مخطّطي «داعش» من العبث، بل لأنّهم باتوا يعون أنّ التوافق الأميركي ـ الروسيّ قد وضع القضاء على هذه «الدولة» كأولويّة مطلقة. ودفع دولاً أوروبيّة وخليجيّة كانت تضع أمامها أولويّات أخرى كي تتبنّى هي أيضاً هذه الأولويّة، ما شكّل أرضيّةً لما يحدث في جنيف. وقد أتى تدفّق اللاجئين الكثيف إلى أوروبا، وثلثاهم غير سوريين، منعطفاً لدفع أوروبا إلى جرّ الخليج وتركيا إلى هذا الموقف. إذ بات هذان الملفّان، أي الإرهاب واللاجئين، يهدّدان استقرار الديموقراطيّة والاتحاد الأوروبي.
على الأغلب، لن يحقّق «داعش» مآربه، بالوصول إلى مهادنة وتغيير الأولويّة ضدّه من جديد. بل من المتوقّع أن يصعّد، بالمقابل، أعماله الإرهابيّة أكثر مع التهديد المباشر بالسقوط الذي باتت تعيشه «عاصمتاه» الموصل العراقيّة والرقّة السوريّة. لكنّ هذا السقوط ليس فقط أمراً عسكريّاً، بل هو في الأساس شأنٌ سياسيّ واجتماعيّ. فالموصل لن تسقط إلاّ عبر توافقٍ عربيّ سنيّ ـ شيعيّ على ما بعد «داعش» ترعاه الدول التي تحمل لواء المواجهة بين المذهبين، وكذلك عربيّ – كرديّ حول مستقبل العراق وموقعه من قوّتي إيران وتركيا الإقليميّتين. والضامن الأكبر لهذا التوافق هي الولايات المتحدة. اللهمّ إلاّ إذا جاء إليها فريقٌ رئاسيّ برعونة فريق جورج والكر بوش يعيد الفوضى إلى المنطقة، وبالتالي يُنعِش «داعش» من جديد.
كذلك لن يُسمَح للجيش السوريّ وحده وحلفائه بإسقاط الرقّة، كي يُضحي الأمر انتصاراً لسلطة أجرمت بحقّ شعبها. ولن يُسمَحَ أيضاً لقوّات الحماية الشعبيّة الكرديّة وحلفائها بهذا الإسقاط، مهما كانت البسالة التي أبرزتها في مواجهة تنظيم «داعش». لأنّ انتصاراً كهذا سيرسّخ هيمنة حزب كرديّ واحد على أكراد سوريا وعلى رقعة من أراضي البلاد تزيد الاحتقان العربيّ – الكردي الحالي في سوريا وتدفع باتجاه مشاريع التقسيم. والأمر هو أيضاً كذلك بالنسبة للمعارضة السوريّة المسلّحة، التي لم تبذل الدول التي تدّعي مساندتها أيّ جهدٍ حقيقيّ لتوحيدها ولفصلها عن تنظيم «النصرة» والجهاديين، وبقيت في معظمها قوى تدافع عن أهاليها في مناطقهم.
إسقاط الرقّة منوطٌ إذاً بالدور الذي ستلعبه كلٌّ من هذه القوى المتناهضة اليوم في جهدٍ مشترك، كان قد أشار إليه وزير الخارجيّة الفرنسيّ الأسبق سريعاً بعيد لقاءٍ مع الرئيس الروسيّ. جهدٌ مشترك ليس فقط لتحرير الرقّة وإنّما وعلى الأخصّ لإدارة ما بعد «داعش». وهنا يكمُن جوهر العمليّة السياسيّة التي تجري في جنيف.
وبرغم عدم حدوث أيّ اختراق، تبدو الجولة الأخيرة من الحوار والتفاوض غير المباشرين أفضل من سابقاتها. حيث يتبيّن أنّ طرح أسئلة من قبل فريق المبعوث الأمميّ كي تجيب عليها الأطراف في محاولة لسبر إمكانيّة إيجاد توافقات يشكّل طريقة أكثر نجوعاً من تفاوضٍ مباشر يذهــب إلى صدامات خطابيّة تبتعد عن المضمون.
الأسئلة كما تمّ طرحها تحتوي تحديات حقيقيّة. إذ ستوضح الإجابات، إذا لم تبق في العموميّات، عمّا إذا كان الهدف هو الشراكة في دولة سوريّة واحدة أم التوجّه نحو فدراليّة، كما تسرّع حزب الاتحاد الديموقراطي في طرحه وتشجّع عليه بعض الدول الخارجيّة. كذلك ستوضح الإجابات سبل إدارة الشؤون الأمنيّة والعسكريّة في المرحلة الانتقاليّة، أي بالضبط «ما بعد داعش في الرقّة».
هناك أمران يستحقّان الإشارة إليهما هنا، مساهمة في الحوار السوري ـ السوري. الأوّل أنّ مفهوم الفدراليّة يرتبط بتوافق أطراف، كانوا في أغلب الحالات مقسّمين، على التشارك في الإدارة. أمّا اللامركزيّة فهي للدلالة على ضرورة إحلال الديموقراطيّة والعدالة بين المناطق وعلى تمكين المجتمعات المحليّة بدلاً من الإفراط في استبداد «المركز»، حتّى على الصعيد التنمويّ. والإعلان عن الفدراليّة من قبل أحد الأطراف دون توافق لا يبني إيجابيّاً للمستقبل، حتّى لو كان الطرف الذي يطالب به ليس وحده المسؤول عن طرحه.
الأمر الثانيّ هو أنّه لا يُمكن إحداث انتقال سياسيّ في ظلّ فوضى عسكريّة وأمنيّة لدى كلّ طرف من أطراف الصراع وبينها، وطالما تَتّهم السلطة كلّ أطياف المعارضة المسلّحة بالإرهاب، وتواصل «المعارضة» الرسميّة ووسائل الإعلام التي تدعمها بوصف الجيش السوريّ بأنّه «كتائب الأسد» أو بنعوتٍ أخرى طائفيّة وتبقى صامتة حيال «جبهة النصرة» والتنظيمات المتطرّفة، ويتعاظم خطاب الشرذمة. فما بالنا إذاً بتحرير الرقّة؟
الجديد لن يأتي من جنيف في واقع الأمر، بل من الديناميّات التي دفعت إليها الهدنة وأبرزتها.
السفير