الرهاب الإسلامي في زمن الربيع العربي
علي حمدان
الثورات المغدورة ربيع ام خريف وشتاء!؟… مؤامرات وصفقات بين الإسلام السياسي والغرب – سايكس بيكو جديد إسلامي ومدني، هل يعقل!؟… جماهير غير ناضجة للديمقراطية!!!… هذه وغيرها من المواقف المشابهة طالعتنا بها مجموعة من الاطراف العلمانية بأطيافها اليسارية والقومية والليبرالية وذلك في ضوء المستجدات الليبية والتونسية ومعمعان المخاض المصري والسوري واليمني والبحريني في مسار عملية التغيير التي أطلقها الربيع العربي. أي أننا هنا امام تشاؤم “علماني” في الوقت الذي حطم الربيع العربي، ويحطم، الاستبداد وتصدح فيه جماهيرنا بالحرية والكرامة والوحدة الوطنية، الامر الذي عشنا بشائره التأسيسية المشجعة جداً في الانتخابات الديمقراطية، النزيهة والعارمة، التني حصلت في تونس بالذات، البلد الذي اطلق شعبه العظيم المد الثوري الجارف في عالمنا من المحيط الى الخليج.
طبعاً، وكما يقال، عندما يعرف السبب يبطل العجب، إنه الرهاب الإسلامي. فالجذر الرئيسي الذي تنطلق منه غالبية المواقف المشار اليها آنفاً هو النقمة المفهومة، ولكن غير المشروعة، من الدور المتعاظم الذي تضطلع به القوى الإسلامية في الحراك الثوري الجاري وذلك بحجة ان هذا الأمر يشوه عملية التغيير ويدفعها باتجاهات رجعية. وكان من الطبيعي ان تمتد هذه النقمة لتعبر عن نفسها بازدراء الجماهير المتخلفة التي اولت، وتولي، ثقتها الكبيرة الى الحركات الإسلامية. ومما زاد في هذه النقمة، وهذا الازدراء، ان بدايات الاحتجاجات في مختلف الميادين كانت بمعظمها تتسم بالطابع الشبابي العلماني الى ان دخلت الجماهير العريضة الى الساحات فاختلفت الاهواء والمعادلات وطبائع الاشياء وحصل ما لم يكن بحسبان البعض الذي حلم وأمل (وهذا حق مفهوم ومشروع بغض النظر عن مدى واقعيته) بثورات تقدمية ناصعة تنقلنا بسلاسة فورية من غياهب الاستبداد القروسطية الى احضان الدولة المدنية ورحاب العصر بقيمه الإنسانية الكونية.
لقد حصل ما كان يجب ان يحصل. عقود من الانحطاط أنتجت فيما انتجته بيئة متدينة إسلامياً وسياسياً متعاظم الحضور إستفاد، ومن الطبيعي ان يعمل على الاستفادة، من هذا الواقع ليعزز نفوذه في اوساط الجماهير، وقوى تقدمية هامشية ومشرذمة… في ظل هذه المعطيات كان من الطبيعي عندما تقتحم الجماهير الساحات وتعلنها ثورة ضد الطغيان ان تحمل معها، فيما تحمله، الإسلام السياسي لكي يتصدر مع الوقت هذا المشهد الربيعي. حالم من كان يتصور ان جماهيرنا، حتى وهي تنادي، بصدق واصالة وقناعة، بالحرية والكرامة والوحدة الوطنية، انها – اي الجماهير – ستغير مشاعرها وولاءاتها السياسية فوراً، وتسير خلف قوى علمانية هامشية بدلاً من الحركات الإسلامية المنغرسة في اوساطها.
هنا، وبالرغم من خياراتها السياسية، فان الجماهير الثائرة فرضت, وتفرض, الاجندة التقدمية التغييرية على كافة القوى السياسية بما في ذلك الحركات الإسلامية. وعلى هذا الاساس فإذ ينغمس الإسلام السياسي في الربيع العربي ويعمل على تكييف نفسه مع طبيعة هذه المرحلة وعنوانها إسقاط الإستبداد وتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهو إنجاز عظيم من أبرز الانجارات التي تحققها جماهيرنا الثائرة في هذا الزمن التاريخي. بالتالي، علينا التنبه الى ان هناك مساراً تاريخياً نوعياً جديداً انتجته جماهيرنا الثائرة، قبله شيء وبعده شيء آخر مختلف تماماً. وينطبق هذا الموضوع على كافة الظواهر الإجتماعية الرئيسية في حياتنا، وبالاخص تلك الفكرية – السياسية منها بتياراتها ورموزها وأحزابها.
في هذا السياق تحديداً على القوى العلمانية ان تعقلن رؤيتها وسلوكها في التعاطي مع اللحظة الإسلامية في مسار الربيع العربي، بما يؤهلها لكي تلعب دوراً ايجابياً مسؤولاً ورئيسياً في العملية الإنتقالية لمجتمعاتنا نحو الدولة المدنية الحديثة، وبالاخص النظر الى الحركات الإسلامية كقوى جماهيرية اصيلة، لها ما لها، وعليها ما عليها، مثلها مثل كل القوى الاخرى، اليسارية والقومية والليبرالية. والمعيار هنا هو السلوك الحالي في دفع الامور نحو الامام، اي نحو الديمقراطية والمساواة والتعددية والتداول السلمي والدوري للسلطة.
ان الكلام عن التجارب السلبية لوصول الإسلام السياسي الى السلطة في عالمنا العربي من خلال صناديق الاقتراع وكيفية تعاطيه مع هذا التحدي هو كلام مردود بالكامل على أصحابه. فالتجربتان الجزائرية والفلسطينية حصلتا في سياق تاريخي مختلف ادى الى اجهاضهما وذلك في المقام الاول بسبب الاستبداد المحلي والعربي بالتواطؤ مع القوى الدولية وذلك لاعتبارات مصلحية ذاتية لا تمت بأية صلة الى مصلحة الشعبين الجزائري والفلسطيني.
نعرف جميعاً ماذا حصل في الجزائر، حيث انقلبت سلطة الاستبداد والفساد (تحت لواء الدفاع عن العلمانية) من خلال الجيش على العملية الانتخابية الديمقراطية التي أتت بقوى إسلامية تسعى الى التغيير الجدي، الامر الذي دفع البلاد نحو حرب اهلية مدمرة يتحمل مسؤوليتها اولاً واخيراً النظام المتعفن القائم، وضحيتها الاولى هو الشعب الجزائري وخياره السياسي ممثلاً بالحركة الإسلامية الفائزة في الانتخابات.
أما في فلسطين، درة تاج مشرقنا العربي، والتي نتابع مآسيها وهمومها وقضاياها بقلوبنا قبل عقولنا، فهنا يجب ان نتصارح مع اعزائنا الفلسطينيين، وهذه مناسبة تاريخية تفرض الحديث، ولو العابر، حول تجربة حماس.
بعيداً عن البدايات والخلافات والملاحظات، المشروعة (وهي كثيرة) وغير المشروعة، فإن مشاركة حماس في الانتخابات الديمقراطية والنزيهة في العام 2007، وبالتالي في النظام السياسي الفلسطيني، شكل محطة نوعية في مسار تطور هذه الحركة الإسلامية الرئيسية (الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين)، وبالتالي في العمل الوطني الفلسطيني آنذاك. طبعاً، لقد فازت حماس وباعتراف الجميع، فماذا كانت النتيجة!!؟ حرب شعواء فلسطينية، إسرائيلية، عربية ودولية لإجهاض هذا الفوز والإنقلاب عليه، الأمر الذي أدى، فيما ادى اليه من أمور أخرى، الى إنتكاسة التطور الوطني الايجابي لحركة حماس وارتدادها الى مواقع عقائدية، أي انعزالية، اضرت وتضر بالشعب الفلسطيني وقضيته.
من يتحمل المسؤولية الرئيسية هنا!!؟.. السلطة الوطنية الفلسطينية، حركة فتح، التنظيمات الفلسطينية والمثقفون الفلسطينيون هم من يتحمل مسؤولية عزل حماس وبالتالي انتكاستها؟
ان انقلاب العنصر الفلسطيني، ممثلاً بالاطراف التي اشرنا اليها آنفاً، على نتائج العملية الانتخابية الديمقراطية، هو الذي سمح لاستفراد الاسرائيليين والانحطاط العربي والبرغماتية الغربية بفوز حماس وتجربتها، وبالتالي الدفع بقضية الشعب الفلسطيني الى حائط مسدود.
هنا يتحمل المثقفون الفلسطينيون وبالاخص الديمقراطيون منهم، مسؤولية رئيسية في السكوت والسماح لهذا الانقلاب على الديمقراطية ان يحصل. لقد أعلن فولتير منظر الديمقراطية الكلاسيكي في عصر الانوار الاوروبي بما معناه: انني معادي لرأيك ولكني مستعد للموت من اجل الدفاع عن حقك في التعبير عن هذا الرأيهل هذا ما فعله المثقفون الفلسطينيون مع رأي الشعب الفلسطيني والإنقلاب عليه الذي مهدت له ورعته السلطة الفلسطينية الفاسدة والتي تشكل النسخة المشوهة لانظمة الاستبداد العربي… للأسف الشديد لقد سكتوا، والساكت عن الحق هو شيطان اخرس… فالمواقع السلطوية والمرتبات الشهرية وبطاقات VIP أعمت بصيرتهم وانستهم أيضا شعبهم في صبرا وشاتيلا والشتات وفلسطين 48 وغزة… فالوطنية تبدأ وتنتهي عندهم اليوم بـ رام الله وضواحيها ومع ذلك فانهم يطلقون الاحكام السلبيه المستمدة من وحي تجربتهم الخاطئة عن ممارسات حماس اليوم وعن الربيع العربي ورجعية الاسلام السياسي وما يجوز او لا يجوز وذلك بدلاً من ممارسة النقد الذاتي ومحاولة التعلم من خطاياهم تجاه معتقداتهم الديمقراطيه وتجاه شعبهم وقضيتهم الوطنيه.
وفي هذا السياق نشير بان الحياة قد حسمت منذ زمن الشك باليقين الى انه ليس هناك استحالة من حيث المبدأ بين الإسلامي والمدني وبين الإسلام والديمقراطية وبين الإسلام السياسي والدولة المدنية. هذه هي تركيا -وغيرها من البلدان الاسيوية- أمامنا حيث تتعايش بديناميكية ايجابية مميزة، المدنية والديمقراطية والدولة الحديثة مع الإسلام و الإسلام السياسي الذي يمثله اردوغان واصحابه في حزب العدالة.
وليس في منطقتنا وديننا فقط، بل وفي اوروبا ايضاً، وبالرغم من الدور الرجعي والدموي الذي لعبته الكنيسة في تاريخ الشعوب وفي تسخير الدين للإستبداد، فقد انتجت المجتمعات الاوروبية تياراً سياسياً دينياً هو الديمقراطية المسيحية الذي لعب دوراً رئيسياً في ترسيخ الدولة المدنية الحديثة.
إذن المسألة الرئيسية في إشكالية الاسلام السياسي والدولة المدنية ليست في المبدأ وإنما هي في الظروف التاريخية المحددة, التي يمكن ان تلعب دورا سلبيا معرقلا او دورا إيجابيا مساعدا. وهنا على وجه التحديد يتجلى الربيع العربي كأفضل ظرف تاريخي إيجابي ممكن انتجته شعوبنا الثائرة لجذب الحركات الاسلامية نحو جدول اعمال التغيير, أي نحو بناء الدولة المدنية الحديثة وعمادها النظام الديمقراطي…فطوبى لهذه الجماهيرالتي نالت عن حق إعجاب العالم وألهمت الشعوب التي تقلدها حالياً بما فيها الشعوب الغربية نفسها…إنها جماهير واعية وتعرف ماذا تريد ولن تسمح بإعادة إنتاج الإستبداد في أي شكل من الاشكال، ديني او غير ديني, ولن تسمح للمغامرين والمتآمرين بخطف مجتمعاتنا من جديد…لقد انتهى هذا الموضوع الى الابد