الروائي التركي (نوبلي) أورهان باموك عن تجاربه وآرائه/ أدعو الى أن تكون تركيا غربية!
بمناسبة صدور النسخة الفرنسية من رواية “إسطنبول” للكاتب التركي أورهان باموك (حائز نوبل)، أجرت معه مجلة “الماغازين ليترير” حديثاً طويلاً جاء فيه على أبرز النقاط التي تناولها في روايته الجديدة كما تحدث عن شؤون أخرى تتعلق بحياته الأدبية.
[ “إسطنبول” كتاب سيرة حياتك حتى سن الثانية والعشرين كما هو وصف دقيق وعاطفي لمدينة تاريخية “إسطنبول”، كما يمكن أن نقرأه بخلفية سياسية واجتماعية وغيره، وأنت كيف وضعت فكرتك الأساسية فيه؟
ـ كانت الفكرة الأولية أن أضع مجموعة مقالات لي تتعلق بمدينة إسطنبول ثم تحمست لفكرة صياغة النصوص في إطار روائي ثم أبعدت كل شيء عني ورحت أكتب وكان أسرع نص كتبته في حياتي وأنا أشعر بأنني مأخوذ ومحموم الى أقصى درجة وأنجزته بنحو سنة وأربعة شهور. وبسرعة بدأت المواضيع فيه تتسارع وشكل الكتابة يتبدّل، وصار مكتبي لا يتسع لكل الوثائق والصور والأقوال الشعبية. فصرت أفكر: وماذا سأفعل بكل ما جمعته ومن بينها الأقوال؟ وعوض رميها، وضعت في فصل كامل على المعلومات وفي إطار شاعري وكان عنوان الفصل: “لا نمشي في الشارع وفمنا مفتوح”… قال ذات يوم والتر بانجامن: ثمة من يكتب عن المدن وهم نوعان: النوع الأول يتعلق بالأجانب والغرباء فيكتبون عن المدينة كما رأوها والنوع الثاني يتألف من أبناء المدينة فتكون كتبهم أشبه بالمذكرات. وأنا “إسطنبولي” إذن كل ما وضعته في الكتاب أقرب الى السيرة عن حياتي ومنذ ولادتي حتى بلغت 22 عاماً ولكن إنتبه! لم تكن لي رؤية الأجانب، فليس هناك من جامع أزرق أو ما شابه. فحياتي جبلتها بتلك الكآبة الطالعة من المدينة بالأسود والأبيض، إنها شاعرية الوحدة وهي كلها نابعة من فضائل تلك المدينة أو على الأقل هكذا كنتُ أراها حين كنتُ طفلاً.
وصفات سحرية
[ وهل ذكرت أيضاً في الكتاب كيف أصبحت مؤلفاً أو وضعت الوصفات السحرية لذلك؟ فأنت تقول: “هذا الشعور بالحزن العميق والمدفون في أعماق تلك المدينة جعلني أعي تماماً ضرورة أن أبني مدينتي المتخيلة”…؟
ـ أنا كنتُ وكما يقولون “ولد شقّة” محبوس في ظل العائلة وفي ديكور الستائر الضخمة والسجاد السميك وكنت أشعر بملل كبير. لكني كنت سعيداً بأحلامي وكوابيسي في غرفة المراهق حيث كنت أرسم وأرسم طوال الوقت وأقلّد كبار الفنانين، ثم صرت أنزل وأتمشى في طرقات مدينتي وكنتُ إذا كتبت صفحة في النهار الواحد أشعر بالسعادة. قد يقول لي اليوم القراء الشباب: أين هي مدينة اسطنبول المزهوة بالألوان والفرحة؟ وفي المقابل سيعثر جيل السابقين لهؤلاء أنني أصف اسطنبول الضبابية والحزينة واسطنبول الغارقة في الثلج الأبيض لأنها كانت تثلج بكثافة حين كنتُ صغيراً. اليوم تبدلت المدينة، صارت تعاني تفاقم السكان وما زالت تجتذب إليها كل سكان القرى والأرياف.
[ لكن والدتكَ كانت تنصحك دائماً بالخروج من قوقعة العائلة الضيّقة، فهل أخذت بنصيحتها؟
ـ خرجت من غرفتي ورحلت الى نيويورك ورغم أنني سافرت بعيداً إلاّ أنني بقيت “اسطنبولي القلب”. ومثلي مثل كثيرين يتعلقون بالمكان الذي ولدوا فيه.
[ هل قرأت “الاستشراق” لإدوارد سعيد؟ أسألك لأنك ذكرت أكثر من مرة بأن نظرتك الى اسطنبول هي نظرة شرقي وتقول: “أنظر الى مدينتي من تلك النظرة التي اكتسبتها من قراءتي لمؤلفات الرحّالة المستشرقين”…
ـ وضع إدوارد سعيد كتابه قبلي وهذا صحيح. ورأى فيّ الإنسان الذي يأتي من المكان نفسه الذي أتى هو منه… التقيته في نيويورك هو وسوزان وسنتاك وبول أوستر. وثمة نقد كثير حول وصف اسطنبول على أنها غربية كما هناك مديح حيال ذلك. ولكن لا أحب أن أقارن الشرق بالغرب أو الإسلام بالمسيحية! المشكلة ليست هنا. إنما المقارنة هنا أردتها حول الجذور والتقليد والثقافة والماضي…
شخصية كردية
[ ولكن في روايتك “ثلج” وهي الأكثر انفتاحاً سياسياً من بين مؤلفاتك تجعل شخصية كردية تقول: “نحن لسنا أغبياء، نحن بكل بساطة فقراء…”.
ـ صحيح وهذا كلام دقيق. وأنا قد أكون كاتباً من الذين يتوجهون نحو العولمة. وأنا كمواطن ديموقراطي وأطمح الى دولة علمانية، أدعو بكل تمنياتي أن تكون تركيا غربية. وفي رواية “إسمي أحمر” تحدثت عن وحدة الألوان في الرسم… ولكن أنا ككاتب أشعر بأن الأمور أكثر تعقيداً. هل تعرف ما هي وجهة نظر تانيزاكي في هذا الأمر؟ كان يحب أن يحافظ على التقاليد اليابانية لكنه كان يفضل لنفسه شقة سكنية فائقة الحداثة. لديّ شخصياً انجذاب الى كل الأغراض القديمة وأحنّ الى الذكريات التي توقظها على الطريقة “البروستيّة” أو بأسلوب حنين بروست في مؤلفاته. لدي انجذاب أيضاً الى التاريخ وإلى الحفاظ على التفاصيل التاريخية الدقيقة لكنني أحب أن أحيا الحياة العصرية، وكل مؤلفاتي تدلّ الى ذلك: “إسمي أحمر” أو “الحياة الجديدة” أو “ثلج”…
محكمة
[ عام 2005، كنتُ تنتظر قرار محكمة بخصوص قضية وكان يمكن أن تُسجن من 6 أشهر الى ثلاث سنوات، ثم ومع “جائزة نوبل” للآداب نسي الجميع هذه القضية. أو يجب أن تعيد الحماية الى حياتك.
ـ لا أملك حرّاساً من حولي، كما يستمع الجميع الى أقوالي من دون أي مشكلة واليوم أنا سعيد: فكتبي تمت ترجمتها الى 34 لغة وكل كتاب يبيع في تركيا وحدها أكثر من 200 ألف نسخة ورواية “ثلج” اعتُبرت من روائع القصص في الصين…
… وجمهورك التركي؟
[ ولكن من هو جمهورك في تركيا؟ وهل أنت روائي سهل القراءة؟
ـ الطبقة الراقية تقول لي هذا الكلام وكأن الأتراك غير قادرين على قراءة مؤلفاتي. أنا أقبل أن أقول أن “إسمي أحمر” و”ثلج” ليسا سهلين من ناحية الكتابة أو الموضوع، ولكن ليس ضرورياً أن تكون مثقفاً الى درجة عالية لتقرأ كتبي…
[ كتبت أيضاً ذات يوم “الموضوع الرئيسي في الكتابة عن الدين هو الحديث عن الإحساس بالذنب”… كيف تفسّر هذا الكلام؟
ـ هكذا أحسّ حيال الموضوع الديني: إمّا أشعر بالخوف لأنني قد اقترفت خطيئة، وإمّا أشعر بنفسي غير قريب من الشعب الذي يؤمن بالله. فأنا قادم من عائلة علمانية وبورجوازية تنظر الى هذا الموضوع بحذر ولكن أيضاً برحمة.
[ وهل تريد أن تقول إنك قادم من طبقة اجتماعية غير واضحة تماماً؟
ـ أجل، فأنا لا أشعر بالارتياح أمام البرجوازية الغنية في اسطنبول، خصوصاً إذا أظهرت قلّة الثقافة والعلم. أبي كان غائباً بشكل شبه دائم ويصرف كل أمواله في أسفاره. فكانت أموال العائلة تخفّ ونروح ننتقل من منطقة الى أخرى. وكنت أشعر بالغضب حيال ذلك وصارت تسكنني نقمة على وضعي.
[ ولكن لا نشعر بالغضب في كتابك، بل بالكآبة…
ـ وهذا ما أردته. لقد كتبت بوحي من شعور هادئ طلع من طفولتي حين استفاقت. أما الغضب فجعلته يظهر في المستوى الخلفي للأفكار الرئيسية، كما أنك لن تعثر على الحنين في كتابي لأنني لم أكن أرغب بالغوص في الماضي، كما أنني لا أشتكي من اختفاء معالم جمال كثيرة من الماضي. في كتابي “إسمي أحمر” تحدثت ربما عن أسفي لاختفاء الذين كانوا يرسمون “الفن المصغّر” ولكن لم أقل هذا بحس الحنين. أنا تعلمت في حياتي أن أكون سعيداً بالحاضر.
ترجمة: كوليت مرشليان