صفحات الحوار

الروائي السوداني أمير تاج السر عن تجاربه المتعددة: ليس بالضرورة أن يكون المثقف عدواً للسلطة!

                                            يعتبر “صائد اليرقات” الروائي السوداني امير تاج السر (1960) احد أهم الروائيين السودانيين المعاصرين. ويتميز بلغته الشاعرية الخاصة، أصدر العديد من دواوين شعر بالعامية السودانية ومن ثم باللغة الفصحى. وانتقل بعدها الى كتابة الرواية.. حيث صدر له “كرماكول”، “سماء بلون الياقوت” “نار الزغاريد” ثم “مرايا ساحلية” وهي الرواية التي أحدثت نقلة في تجربته الروائية، كما كتب “سيرة الوجع”، “صيد الحضرمية” و”عيون المهاجر”.

أما البداية الحقيقية كانت مع رواية “مهر الصياح”، وتلتها رواية “زحف النمل” و”صائد اليرقات” التي كانت بين الروايات الست التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية لعام 2011 وصولا الى روايته الاخيرة “أرض السودان – الحلو والمر”. ويذكر ان الروائي امير تاج السر هو ابن أخت الروائي السوداني الطيب صالح، أحد أهم المجددين في الرواية العربية الحديثة.

[ ما الذي قدمته لك الرواية.. ولم يقدمه الشعر..؟

ـ في الحقيقة كتبت الشعر سنوات طويلة، ونشرت قصائدي في صحف ومجلات عديدة، وكان من الممكن أن أظل في ذلك المجال، لكني كنت مغرما بالحكي حتى داخل قصائدي، إضافة إلى تشجيع من الكثيرين أن أكتب قصة أو رواية، وهكذا وجدت نفسي أكتب “كرمكول”، أولى رواياتي، وأنشرها وتجد إقبالا جيدا. حدث ذلك في أواخر الثمانينات، واستمر إلى الآن. الرواية لاءمت مزاجي الإبداعي أولا، فيها استطعت أن أصنع عوالم خاصة لا يسعها الشعر، وأيضا كانت ثوبا واسعا، ضم بجانبه حتى الشعر الذي كنت أكتبه إما داخل السرد أو قصائد تقتضيها الضرورة، كما حدث حين كتبت قصائد المغني أحمد ذهب في روايتي زحف النمل.

[ رواياتك، بشكل عام، اقرب الى السيرة الذاتية.. وهي ظاهرة لافتة، لاسيما في الأعوام الأخيرة، حيث ان معظم الروائيين يستلهمون سيرتهم الذاتية. لماذا..؟

ـ من قال ذلك؟ ما أكتبه سيرة، أكتب على عنوانه سيرة، ولي ثلاثة أعمال في هذا المضمار هي “سيرة الوجع” و”مرايا ساحلية” و”قلم زينب” التي كتبتها مؤخرا. معظم أعمالي أستوحيها من التاريخ والأسطورة، وحكايات بلادي، ربما أستدعي شخصيات أعرفها وربما أبدأ بحدث واقعي، وكونها ليست سيرة على الإطلاق. وأعمالي المهمة في نظري مثل “مهر الصياح” و”توترات القبطي” و”العطر الفرنسي” و”صائد اليرقات”، كلها خالية من سيرة شخصية.

تبسيط اللغة

[ لجأت في أعمالك الأخيرة إلى تبسيط اللغة إلى درجة كبيرة.. بعكس أعمالك الأولى حيث كانت اقرب إلى اللغة الشعرية..؟

ـ نعم هذا حدث، كنت مسكونا بالشعر إلى درجة كبيرة، وكان الفطام النهائي منه، يحتاج إلى زمن طويل، وعدد من التجارب مثل “سماء بلون الياقوت”، و”عواء المهاجر”، وابتداء من “صيد الحضرمية”، بدأت اللغة الشعرية تتوارى لتحل محلها لغة بين النثر والشعر، وحين كتبت” مهر الصياح”، كنت قد نجحت في صناعة أسلوبي، وما عاد أحد يشكو من صعوبة الفهم، أو يصف أعمالي بأنها أشباح روايات، وأعتقد أن تلك التجارب الأولى كانت مهمة من أجل صناعة الخصوصية.

[ اعتبر بعض النقاد ان رواية “مهر الصياح”، تؤرخ بداياتك الفعلية.. على الرغم من أنك نشرت قبلها كثيرا من الأعمال المميزة..؟

ـ مهر الصياح، من الممكن أن يؤرخ بها لي لأنها كانت كبيرة الحجم وحاشدة بالكثير من الأشياء غير المألوفة ولأنها كانت رواية مكتملة العناصر وفيها تحدد أسلوبي بجلاء. بعض القراء ما زالوا يحنون لطريقتي القديمة، وأظن أن الأمر في النهاية، يخضع للتذوق الشخصي للقارئ أو الناقد.

[ غالبا ما تلجأ لاستخدام الأسطورة في رواياتك.. ومع البيئة السودانية الإفريقية تكون اقرب إلى الغرائبية.. تماما كما في الأفلام العربية او الإفريقية التي تستخدم الأسطورة والعادات والتقاليد لشد المتفرج.. ما قولك..؟

ـ هذا صحيح، البيئة السودانية بمكوناتها العربية والإفريقية، تعتبر بيئة خاصة جدا، وما زالت غير مكتشفة، وبها العديد من العوالم التي لم يخض فيها الكُتّاب، توجد لدينا أساطير وعجائب، وتراث غني وتوجد في كل يوم حكاية، وأنا قدمت ما استطعت تقديمه، ولو كنت أملك الوقت لكتبت أكثر. بالنسبة لشد القارئ، وبالرغم من أنني لا أتعمد ذلك، إلا أن البهارات التي أكتب بها قد تفعل ذلك، وأقول لك أن هذه الطريقة، ليست منزهة من الانتقاد، وهناك قراء ونقاد كثيرون لا تعجبهم، ما يهمني هو اقتناعي التام بما أكتب، حتى لو لم يعجب كل الناس.

سلطة اللامعقول

[ لفت نظري قول احد النقاد بأنك تقوم “في انجاز سلطة اللامعقول عبر اللاايديولوجيات، واعتبر ان “هذه واحدة من مميزات العمل الروائي الجديد في السودان”.. ما رأيك وهل يمكن فعلا الكتابة خارج الايدولوجيا.؟

ـ نعم، مشروعي بعيد عن الايدولوجيا وسلطتها، ولم أكن ايدولوجيا في يوم من الأيام، أكتب ما أراه يلائمني، ويمكن أن أمزج السياسي بالاجتماعي، بالثقافي، كما ذكرت أنت، من دون أن ألتزم أوامر ما، وفي روايات عديدة مثل “صائد اليرقات” و”تعاطف”، و”رعشات الجنوب”، كتبت عن هموم وطنية، من دون أن أقع في المباشرة، وأعتمد كثيرا على الإشارات الموحية، أكثر من اعتمادي على الشرح الموسع.

[ تثير في اكثر من رواية موضوع العلاقة والحوار مع الاخر (الغرب).. كيف ترى هذه العلاقة من وجهة نظر الروائي والمثقف..وهل ترى انك قدمتها بالشكل الأمثل من خلال “أرض السودان.. الحلو والمر” او العطر الفرنسي..؟

ـ صحيح، في “العطر الفرنسي” و”أرض السودان..”، تعرضت لتلك العلاقة، وكلها كانت معكوسة، وأعني وجود الغريب في ديارنا، وما يجده في هذه الديار، كاتيا الممرضة الفرنسية، في “العطر الفرنسي”، كانت موجودة حقيقة في واحد من أكثر الأماكن في شرق السودان، عاملة في مجال الإغاثة، وكانت باسلة، وتذوقت المجتمع الريفي، بصورة غريبة، وذلك المجتمع حولها إلى رمز. هنا تظهر صورة الاحتفاء الكبيرة. أوسمان في “الحلو والمر”، جاء بناء على تحد بينه وبين أحد أصدقائه، وأيضا اندمج في المجتمع، ومارس حق المستشرقين في ارتكاب الأخطاء، وادعائهم المعرفة الكاملة، لما جاءه لاستكشافه. نموذجان مختلفان، لكنهما أديا الغرض إلى حد ما، في تطرقي للعلاقة الشائكة بين الشرق والغرب.

[ لكني في روايتك “ارض السودان.. الحلو والمر” شعرت وكأنك تتقصد تسطيح الاخر (الغربي) حين قدمته إنسانا مخمورا.. يغامر بحياته من اجل رهان تافه.. المسؤولة عن المكتبة كان همها إقامة علاقة جنسية مع الزائر الجديد..العلاقات العائلية المفككة..ولم تعط البيئة الغربية حقها في الوصف سواء المكاني او الإنساني، وبدوت “مستعجلا” جدا للانتهاء من الفصل الأول والوصول الى بيئتك المفضلة (السودان)، حيث تستفيض وصفا وتحليلا..لماذا..؟

ـ مسألة الرهان كانت مدخلا، أردت أن أن يدخل الغريب به إلى أرضي، لم أكن مستعجلا أبدا، وحسب ما أعتقد، قدمت المدخل، وتركت النص يمضي إلى ما أردته، ربما أنت ترى ذلك، وهناك آخرون يرون العكس، وقرأت مرة لأحد القراء رأيا يعتبرني فيه، قد قدمت الغربي وكأنه غير غربي. كلها آراء أتحملها، وألتزم بما قاله نصي في النهاية.

[ بالتالي، إلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يكون حيادياً في تسيير شخصيات روايته؟

ـ عندي لا مشكلة على الإطلاق، وقد دربت نفسي على عدم التدخل في إدارة النص، على الأقل في الكتابة الأولى، أنا أتركه يمضي، وبعد ذلك اختزل بما اكتسبته من خبرات في تعديل شيء ما، ربما يكون مصيرا لشخصية، ليس من المفترض أن يرد كما ورد، وهكذا كتبت كل رواياتي تقريبا.

تكثيف

[ في رواياتك تكثيف ملحوظ للشخصيات، والتي ينتمي معظمها الى قاع المدنية، ويلفت اكثر الأسماء التي تطلقها على هذه الشخصيات ودلالاتها..؟

ـ نعم، التكثيف مهم، والتركيز على الشخصية سواء كانت رئيسية أو ثانوية مهم جدا. أحاول أن أرسم الشخصية جيدا، حتى لا يتوه القارئ معها ويعود ليبحث عنها، ومسألة الأسماء ودلالاتها، عشق كبير، أبحث عن الاسم الذي يرمي بظلاله وليس أي اسم، ودائما ما أعثر على تلك الأسماء وسط مرضى يزورون عيادتي، أو أناس التقيت بهم في الماضي، جيران أو أقارب أو زملاء دراسة ومهنة. وأكيد أن شخصيات الهامش تغريني أكثر لأنها لا تجد منبرا تتحدث عبره، عكش الشخصيات اللامعة التي تحتل كل لمنابر.

[ تلجأ كثيرا الى التاريخ والتوثيق والأرشيف.. “مهر الصياح”، و”توترات القبطي”، وسؤالي الى أي مدى يسمح الأدب والسرد بالاتكاء على التاريخ والواقع.؟

ـ نقطة التوثيق والأرشفة ليست عندي بكل تأكيد، أنا أخترع تاريخا موازيا للتاريخ الذي حدث، وأرصف عليه النص. ربما أتكئ على حدث حقيقي، كما هو الحال في توترات القبطي، ولكن غالبا ما أكتب النص بلا أي مرجع، وقد ذكرت في مقال حديث بالجزيرة، الفرق بين التاريخ والرواية، والفرق بين كتابة نص تاريخي موثق، ونص تاريخي مخترع، وأظنك حين قرأت مهر الصياح، لم تفطن إلى مسألة الخداع الإبداعي كما سميتها.

[ في نفس السياق. الى أي مدى يمكن الروائي ان يتدخل بالماضي ويختلق شخصيات وحكايات تجعل القارئ يخلط بين التاريخ والأدب ولا يعرف مدى مصداقية القصة.. وبرايك الا يعتبر هذا تزييفا للتاريخ خاصة لو كانت الشخصيات تتمتع بمصداقية..؟

ـ لا إطلاقا.. أهم ما في كتابة هذا نوع من الروايات، أنت تعيش البيئة التي ستكتب عنها كاملة، تلك بكل مكان يحدث، وبعدها تعمل مخيلتك.

المحرّمات

[ يلاحظ اتجاه في الرواية العربية الجديدة نحو الغوص في المحرمات الجنس والسياسة.. هل تراها موضة أم ضرورة..؟

ـ أعتقد أنها موضة، وفي طريقها للزوال، ليس من الضروري أبدا التعرض للدين، أو الكتابة الجنسية بشكل سافر، ما دام الروائي قادرا على كتابة نص محتشم ويؤدي الغرض، أما السياسة، فلم تعد من المحرمات، لكن كتابتها سافرة، أيضا في رأيي تضر النص كثيرا.

[ تطرقت في رواية “توترات القبطي” الى مسألة خطيرة وهي الطائفية..وعالجتها بشكل غير مسبوق..هل يمكن تلخيص رؤيتك لهذا الامر ولاسيما في ضوء ما يحدث..؟

ـ هي عن الثورات التي تأتي بصيغة دينية، تلغي الآخر، تزعم أنها جاءت لمحاربة الفقر والتخلف والاستبداد، وتنتهي أكثر فقرا وتخلفا، بمعنى إعادة إنتاج التخلف، وهذا ما قصدت كتابته في توترات القبطي.

[ تتحدث في روايتك الجديدة “رعشات الجنوب” عن العلاقة بين الشماليين الذين يعيشون في الجنوب…”.هل كنت تستبق الأحداث والانقسام..؟

ـ “رعشات الجنوب”، تتحدث إذا أردنا الدقة، عن أهل الجنوب، والشماليين الذين يعيشون في الجنوب وتتعرض للعلاقة التاريخية بينهم، وهنا رصدت تلك العلاقة الشائكة، ذكرت مسألة الرق، مسألة التجارة التي أسسها الشماليون، وتحكموا بها في لجنوب، وأشياء أخرى عديدة، أدت في لنهاية إلى سودانيين. لقد كتبت هذه الرواية قبل الانقسام وكانت من الأعمال التي تنبأت به بقوة.

[ روايتك الأخيرة “رعشات الجنوب” تحيلني على سؤالك عن دور المثقف في مثل هذه المراحل بالذات.. وكيف ترى طبيعة علاقته مع السلطة السياسية..؟

ـ المثقف ليس بالضرورة عدوا للسلطة، كما يروج لذلك، إذا كانت ثمة سلطة ليست غاشمة، فلماذا يناصبها المثقف العداء؟. الدور هنا تنويري بحت، وعلى المثقف أن يدلي بأرائه من دون تجريح أو صدام.

[ سؤال اخير. هل يزعجك ان تكنى بالأديب الطيب الصالح.. وان يلجأ للمقارنة دائما بين أعماله، وبين أعمالك..؟

ـ لا إطلاقا، لا يزعجني ذلك، أنا أفتخر بكون الطيب خالي بالرغم من أنني لم أتأثر به إطلاقا، وكتبت في زمن غير زمنه، وعن قضايا لم تكن قضاياه، وبلغة ليست لغته، ما يحبط أحيانا، أن يكتب أحدهم إنني أكتب بأسلوب الطيب وأعرف تماما أنه لم يقرأني ولم يقرأ الطيب.

وحيد تاجا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى