الروائي النروجي جوستاين غاردر على خطى «هاري بوتر»… بنكهة فلسفية/ نزار آغري
لم تنجح الرواية الأخيرة للنروجي جوستاين غاردر «قلعة البيرينيه» في اجتذاب القراء. عبرت بهدوء من دون أن تحدث جلبة. هذا ليس أمراً جديداً. الروايات التي أصدرها غاردر بعد «عالم صوفي» رقدت على رفوف المكتبات وحل عليها الغبار بصمت. لا يعني هذا أن الكاتب يتعرض لإهمال مقصود أو أن يداً خفية تحبك مؤامرة ضده. وليس للأمر علاقة بمواقفه السياسية وقناعاته الفكرية. الأرجح أن الفشل الذي بات يلاحقه من رواية إلى أخرى ينبع من الروايات ذاتها لا من خارجها.
إنه الفشل الذي ينهض من عجز الكاتب عن التحرر من طغيان الفكرة الواحدة التي دأبت تحتل مخيلته وتقيد حركتها. هي الفكرة التي اقترحها لنصه الروائي «عالم صوفي» ثم استقرت عنده فلم يبارحها منذ ذاك. في كل نص جديد يبدو الكاتب كما لو أنه يعيد صياغة «عالم صوفي» بنسخ جديدة ولكن بالعدة السردية ذاتها: مجموعة من التساؤلات الوجودية والحوارات النظرية والتأملات الميتافيزيقية. والأسلوب الشكلي أيضاً بقي على حاله. لم تجترح المخيلة أساليب جديدة.
تبدو النصوص المتلاحقة فصولاً في رواية عملاقة لا تنتهي. إنها أشبه بهاري بوتر، إنما في قالب فلسفي. أي أنها نوع مملّ من هاري بوتر يفتقر إلى عنصر الدهشة والتشويق الموجود في هاري بوتر الأصلي. ليس ثمة مدرسة للسحر ولا عوالم فانتازية باهرة، بل هناك أفكار باردة عن الحياة والصدفة والقدر والموت.
حبكات مدرسية جافة هي إطار لإيصال الفكرة التي تسيطر على الكاتب وتشغل ذهنه وتشكل له وسواساً دائماً. إنه وسواس الفكرة. الفكرة الطاغية، القاسية، الملحة.
في «لغز لعبة الكابالاه» يعيش بطل الرواية، الفتى هانز، مع والده بعدما اختفت أمه. يشرع الفتى ووالده في البحث عنها. يستقلان سيارة ويمضيان إلى اليونان. نمضي معهما في رحلة الطريق حيث المصادفات، الكتب، الأوراق. في الطريق يطرح واحدهما على الآخر أسئلة كبيرة: من نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نمضي؟
في «لغز عيد الميلاد» نصادف بطل الرواية، الفتى يواكيم مع والده يمضيان إلى السويد لشراء روزنامة عيد الميلاد. يعثر يواكيم على تقويم قديم لا يوجد فيه أي شيء، لا شوكولا ولا غيرها. يعطيه صاحب المحل التقويم كهدية. وفي البيت يفتح يواكيم التقويم فيجد فيه رسالة تحمل اسم إليزابيت. سوف يسعى للبحث عنها والتعرف إليها.
في «فتاة البرتقال» نجد بطل الرواية، الفتى جورج، وهو يعثر على رسالة كان والده كتبها إليه قبل وفاته ويخبره فيها عن فتاة البرتقال، تلك التي كان أحبها حين كان مراهقاً. كان الوالد شاهد يوماً فتاة تحمل كيساً من البرتقال في حافلة في وسط أوسلو. وحين نزلت الفتاة بدأت رحلة البحث عنها. ذات يوم تأتيه رسالة من إسبانيا. منها. من الفتاة. هي في إسبانيا. يسافر إلى إسبانيا للبحث عنها مع أنه لا يعرف أين تقيم ولا عنوانها.
أما الرواية الجديدة «قلعة البيرينيه» فهي عبارة عن نص كامل يقوم في حوار طويل بين شخصيتين. رجل وامرأة. ستاين وسولرن، ومعنى الاسمين: حجر وشمس. يلتقيان في اليوم نفسه، في الفندق نفسه الذي كانا قد قضيا فيه شهر العسل قبل ثلاثين سنة. يا للصدفة العجيبة. ستاين عالم الفيزياء. سولرن أستاذة اللغة الفرنسية. ستاين ملحد لا يؤمن بوجود عالم روحي. سولرن تؤمن بالله والروح والعالم الآخر. كان الزوجان انفصلا لأسباب غامضة لا تشبه الأسباب التي تؤدي عادة إلى حدوث الطلاق. هي أسباب وجودية وفلسفية. يلتقيان صدفة على شرفة الفندق الخشبي القديم في خليج أوسلو ويستعيدان وصل ما انقطع من عيشهما المشترك السابق، ليس بغية الرجوع إلى بيت الزوجية وإنما للمزيد من الفذلكة والثرثرة.
يلتقيان في المكان الذي يحتفظان عنه بذكريات قديمة. بعد اللقاء يتبادلان العناوين الإلكترونية ويشرعان في تبادل الرسائل. وفيها يستمران في طرح الأسئلة الكبرى، كالعادة: كيف وجد الكون؟ لماذا وجد الكون؟ هل سنستمر في الوجود بعد الموت؟ يمتلأ النص بقضايا الفلسفة والمنطق والفلك والفيزياء والرياضيات والباراسيكولوجيا والتخاطر. فلاشات باك متتالية. تذكّر. تأمل في المعاني الأساسية. ولكن سرعان ما يكتشفان، من جديد، أنهما يمتلكان وجهتي نظر مختلفتين عن كل شيء في الحياة، وأنهما حسناً فعلا حين انفصلا.
تُخيّم على نصوص غاردر أجواء القلق الثقيل: القلق الكيركغاردي، قلق الفلاسفة. إنها نصوص أفكار وأمثولات لا نصوص وقائع ومصائر وهي تصلح كمواد توجيهية لطلاب المرحلة الثانوية أكثر منها روايات يجد فيها القراء المتعة الفريدة التي توفرها الإبداعات الأدبية.
يتضح لأي قارئ يتتبع نصوص غاردر أنها متشابهة. تكاد تكرر ذاتها. تعيد إنتاج نفسها. كما لو أن الكاتب يمارس نوعاً من الريسايكلينغ، أو تكرير المادة. والمادة هي بكل بساطة: الفلسفة.
ينظر الكاتب إلى الناس، كل الناس، باعتبارهم فلاسفة. ليست ثمة شخصيات عادية تعيش الحياة بتفاصيلها اليومية الصغيرة، بل ذوات مفكرة لا تكفّ عن التأمل وطرح الأسئلة الوجودية. هي ليست شخصيات من لحم ودم بل محمولات فكرية وتمثيلات نمطية توحي وترمز. كأننا أمام كليلة ودمنة ولكن في قالب عصري. لا مشاعر أو أحاسيس أو وقائع بل نظريات ونقاشات وأطروحات.
أبطال الروايات فتيان أو فتيات، في مقتبل العمر، تزخر رؤوسهم- أو رؤوسهن- بالأسئلة ويدفعهم الفضول إلى التعرف إلى كل ما هو غريب. يقوم هؤلاء بالسفر والارتحال إلى أماكن قصية للوصول إلى جواب يشفي غليل أسئلتهم. يلف الغموض كل شيء، ثم يتبع ذلك السيل الجارف من الحوارات النظرية التي لا تنضب.
حين يعود بطل رواية «لغز لعبة الكابالاه» من رحلة إلى اليونان، مهد الفلسفة، يرى أن من الضروري الذهاب إلى المكتبة العامة ليراجع كتاباً يشرح له الأسئلة الفلسفية، ولكنه انتبه إلى أنه لن يجد كتاباً كهذا فخطرت له فكرة كتابة «عالم صوفي».
لا أحد يملك الحق في الاعتراض على انشغال الكاتب بمثل هذه الأمور. الاعتراض ينبع من إصراره على طرح أسئلته في قالب روائي. والأغلب أن هذا هو السبب الذي يجعل القارئ يعرض عن نصوصه الأخيرة. فهو، أي القارئ، يدرك بالتأكيد الحد الفاصل بين الرواية والمحاضرة الفلسفية.
عندما يكتب غاردر تساؤلات الصغار
الفلسفة هي عالم جوستاين غاردر الذي لا يكاد يفارقه، حتى حين يخاطب الناشئة والأطفال، فالكاتب العالمي الذي حققت روايته الشهيرة «عالم صوفي» أعلى نسبة مبيعات في تسعينات القرن العشرين، يُدرك أنّ الوجود ليس لغزاً بالنسبة إلى الكبار فقط، بل إنّه يُدهش صغاراً لا يتوانون عن طرح أسئلة لا أحد يُجيبهم عنها. ففي معظم الأحيان، يعمد الأهل إلى إخفاء الحقائق عنهم لمجرّد أنهم يرونهم أصغر من أن يدركوا هذه الأمور أو يتناقشوا فيها. أسئلتهم لا تختلف كثيراً عن أسئلتنا، وإن تغيّرت المفردات وصيغ التعبير. التفاصيل الصغيرة تشدّ انتباه أطفالنا، فنراهم يكثرون من أسئلة غالباً ما نتذمّر منها لبساطتها. أمّا حين يواجهوننا بأسئلة أكبر وأعمق، فنطالبهم بتأجيل هذه المواضيع إلى حين يكبرون، أو أننا نخترع لهم أجوبة تحدّ من عزيمتهم ورغبتهم في البحث والمعرفة.
في كتاب «أسئلة وتساؤلات» (دار المنى- ترجمة سكينة إبراهيم)، يضعنا الكاتب النروجي جوستاين غاردر وجهاً لوجه أمام صبي في الثانية عشرة من عمره تقريباً. لا يذكر الكاتب سنّه ولا اسمه، لكنّ الرسوم المرافقة للنصوص تُشكّل جزءاً من قصة جوستاين غاردر. تُمثّل رسوم الفنان الحائز أهمّ الجوائز العالمية أكين دوزاكين، السرد الغائب عن «أسئلة وتساؤلات».
لا يُقدّم الكتاب قصة تقليدية تحدث مع شخوص معينين في مكان وزمان محددين، بل إنها تغوص في ذهنية صبيّ تتولّد لديه أسئلة كثيرة في كلّ موقف جديد يُصادفه. ومن خلال أسئلته المتتالية يواكب القارئ مغامرة صبيّ يافع يشدّ الرحال مسافراً على متن مستويات متعددة من ذكريات عالم الزمان. فيفتتح الكاتب نصّه بسؤال وجودي: «من أين أتى العالم؟ أكانت الأشياء كلّها موجودة منذ الأزل؟ أم أنّ كل ما يحيط بنا جاء من العدم؟»، ومن ثمّ يختتم نصّه بسؤال آخر : «وماذا يجدر بي أن أفعل بحياتي؟».
واختار دوزاكين أن يرسم لوحاته أو رسومه بألوان ضبابية تعكس القلق الذي يخيّم على حياة إنسان في مرحلة تشكل وعيه ونضجه، محاولا فكّ ألغاز عالم هو موجود فيه من غير أن يدرك كيف؟ لماذا؟ وإلي أين؟…
هكذا، تتداخل نصوص، أو بالأحرى أسئلة جوستاين غاردر الفلسفية مع رسوم أكين دوزاكين البديعة، ليتشكّل شيئاً فشيئاً نسيج قصة عن الصداقة والحب والحزن والألم والأمل: «هل يستطيع أولئك الأشخاص الذين رحلوا وما عادوا في دنيانا، أن يعرفوا أيّ شيء عن أحوالنا؟»…
الحياة