صفحات الحوار

الروائي عبد الناصر عايد: بلادي تشقّ طريقها


اعتقله السوريون لنشاطه الثوري والأتراك لعبوره الحدود بلا وثائق

يعتبر عبد الناصر عايد واحداً من ألمع الروائيين الجدد في سورية، وقد تعرّض الروائي للمطاردة والسجن في سورية، ثم لمّـا فرَّ من سورية ووصل الى الأراضي التركيّة اعتقل أيضاً، وطالبت «رابطة الكتّاب السوريين» الحكومة التركية بالافراج عن الكاتب عايد، عضو الأمانة العامة للرابطة، الذي اعتقلته الحكومة التركية فجر السادس والعشرين من الشهر الماضي في أنقرة، وذلك لعدم وجود وثائق سفر كافية لديه. وأوضحت الرابطة في بيان لها أن «العايد» قد غادر الأراضي السورية سرّاً، جرّاء الملاحقات الأمنيّة المتواصلة التي تعرّض لها من قبل أجهزة النظام الفاشي، بسبب نضاله الوطني في إطار الحراك السلمي للثورة السورية، وبسبب انتمائه الفاعل إلى «رابطة الكتّاب السوريين» التي تضمّ نخبة من أبرز كتّاب سورية وشعرائها ومفكّريها الأحرار، وكانت وجهة الكاتب خلال اعتقاله هي إسطنبول عبر أنقرة، قاصداً الحصول على ملاذ آمن. و«رابطة الكتّاب السوريين» تهيب بالسلطات التركية العمل على إطلاق الكاتب المناضل فوراً، وتوفير ملاذ آمن له أسوة بالسوريين الأحرار المطاردين في سورية واللاجئين إلى تركيا.

«المشاهد السياسي» ـ إسطنبول

> قام النظام السوري بخطف واعتقال الروائي القاص عبد الناصر العايد، وذلك ضمن إطار حملته المتواصلة للتضييق على المثقّفين وناشطي الرأي السوري.

والكاتب من مواليد دير الزور 15/9/1975، بكالوريوس علوم عسكرية في قيادة الطائرات. فاز بجائزة وزارة الثقافه السورية (حنّا مينه) للكتّاب الشباب العام 2004 عن مجموعته القصصية «الاحتراب»، وفاز بجائزة دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 عن روايته «قصر الطين». يملك ويدير «دار النهرين للدراسات والترجمة والنشر» في دمشق، كان قبل تسريحه تعسّفياً، بسبب ثقافته التي أربكت النـظام السوري، رائداً في الدفاع الجوّي خدم في مدينة حلب.

لم يكن قرار الكاتب مغادرة البلاد سهلاً، وقد كان الخروج منها صعباً من الناحية الاجرائية، لعدم امتلاك الكاتب جواز سفر إذ حرمه النظام من الاستحصال عليه منذ كان ضابطاً في سلاح الجوّ.

يقول الكاتب: أيام الفرار كانت مؤسية، نظرة أمّي الحائرة بين دفعي الى الرحيل بعيداً عن الخطر، ومرارة ابتعادي عنها، تعمشق إبنة أخي التي لما تبلغ السنتين من العمر برجلي، الموضع المقفر الذي مررت به في وسط بادية الجزيرة حيث ولدت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، صور رفاقي وأصدقائي ممن قضوا في أيام الثورة والذين ما زالوا يقيمون على جمرها، خصوصاً المعتقلين منهم… الفتاة صاحبة أجمل أصابع في العالم، عبور الفرات في ساعة متأخّرة من الليل بقارب صيد فقير، فكرة الفرار من بلادي فيما هي تشقّ طريقها إلى الحرّيّة عبر بحر من الدماء.. كلّها كانت تعيق خطواتي، وتجعل الرحيل في تلك الأحيان، من الناحية العاطفية، خروجاً من الروح.

لكن من الناحية العملية كان لا بد من الرحيل، كان الوضع الإنساني يتدهور بفعل الحصار الخانق على مدينة دير الزور وريفها، بالتزامن مع تصاعد الارادة العامّة بإسقاط النظام بأي ثمن، وكانت كل وسائل التواصل مع العالم الخارجي، الذي يفترض به أن يمدّ المجتمع بروح الحياة قد انقطعت… كان لا بد من ارتحال بعضنا في مختلف الجهات، بحثاً عن الينابيع كما كان يفعل أجدادنا البدو ذات يوم… وتظلّ قلوبهم مشدودة بخيط ماء إلى الربع، وإلى معشوقة ساحرة رآها ذات أصيل على الغدير.

> كيف كان خروجك من سورية في ظلّ الظروف الراهنة، والأعمال العسكرية الواسعة التي تحصل في مناطق الحدود بين سورية وتركيا؟

< عبور الحدود من شمال شرقي سورية، حيث هي خارطة سياسية معقّدة إلى أبعد حدّ، كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، المهرّب الذي مرّ بي على حاجز كبير لحزب العمّال الكردي المتشدّد، ما لبث أن مرّ على حاجز للأمن السوري، فشعرت حينها أنني وقعت في كمين وسيتمّ تسليمي لأجهزة أمن النظام، لكن المهرّب حيّاهم ومضى إلى الشريط الحدودي، الذي ما أن اقتربنا منه حتى استدعانا زملاء المهرّب، لأن القوّات التركية نصبت كميناً هناك لاصطياد المعارضين الأكراد المسلّحين الذين يعبرون من تلك المنطقة، ولأنها تتعامل مع هؤلاء كإرهابيين محتملين، فقد كانت إمكانية إطلاق النار علينا كبيرة… في النهاية، عبرت الحدود وتوجّهت بالباص إلى إسطنبول، ولأنني لا أملك جواز سفر ولا أي وثيقة أخرى، ولأنني عبرت من منطقة يسيطر عليها أكراد متطرّفون، ولأني عرّفت عن نفسي بأني صحفي سوري، بينما وجد المحقّقون على الـ«فلاش ميموري» خاصّتي صوراً لي وأنا بلباس الضابط النقيب على طائرة مقاتلة، فقد ارتابو بي وأودعدت السجن وبدأ معي تحقيق أمني.

في السجن المسمّى «أمنيّات يابانشي شوبا» حيث أودعت، وهو مركز لوقف الأجانب الذين يدخلون البلاد بطريقة غير شرعية ومن ثم ترحيلهم، كان الشرق الأوسط كلّه ممثّلاً تقريباً، بقوميّاته وإثنيّاته وأديانه وشعوبه، بصراعاته وصدام حضاراته، بمآسيه وأحزانه، من ناصر الإيراني الكردي الذي هرب من اضهاد النظام الإيراني، بسبب انتمائه لحزب الحياة الجديدة القومي الكردي في إيران، ليعاد اعتقاله لمدة عشر سنوات هنا، بسبب قرب هذا الحزب أيديولوجياً من حزب العمّال الكردستاني المعادي لتركيا، إلى محمد شافئي الإيراني الهارب الى السويد بعد أن تحوّل الى الديانة المسيحية والمطارد بتهمة تزوير وثائق سفره، إلى آمد الفتى الكردي السوري الذي جاء من عامودا السورية ليذهب تهريباً إلى ألمانيا حيث سيدرس الهندسة، ويعمل في الوقت نفسه ليتخرّج، وفي حوزته قدر من المال لينشئ به معملاً للمعكرونة من الحنطة الكردية التي يقول أن لا مثيل لها في العالم وتكفي الشرق الأوسط كلّه، وصولاً الى مجموعة من الأذريّين المسلمين المتسلّلين من جورجيا، وعدد من السوريين الفارّين من مناطق إدلب وحلب، وليبي واحد مشكوك في انتمائه إلى تنظيم القاعدة، قال لي عند وصوله «النصر جاي على سورية والإسلام سينتصر»، ولأننا كنا في شهر رمضان سألني عما إذا كان الشرطة سيقدّمون حليباً وتمراً على الافطار أم لا، وصولاً إلى جو الذي هرب من راوندا قبل سنوات عديدة إبّان مذابح الهوتو والتوتسي، وآخر من الصومال لم يكن يتلفّظ بكلمة واحدة، فهو يبادر إلى تنظيف المكان بالكامل فقط بعد أن ننتهي من طعامنا، ويقبل بعض السكائر التي نهديها إياه ثم ينام حتى موعد الوجبة التالية. في قسم النساء المجاور كان هناك سوريّات وجورجيّات وإيرانية ترتدي ثياباً على أحدث طُرُز الموضة، وفتاة آريترية تجيد اللهجة الشامية وكانت تتحدّث معنا من وراء القضبان بحثاً عن عريس تشترط أن يكون «ماباس تمّو إلا إمّو». كان بيننا أربعة أطفال تحت العاشرة جاؤوا من كفرنبل السورية مع والدهم الشرطي المنشقّ، وقبض عليهم من دون وثائق عندما كانوا يتسجّلون في مكتب الأمم المتحدة للاجئين في أنقرة… كانوا أكثر من ستين شخصاً تنطق عيونهم بالحقيقة المرّة: شرق أوسطي حزين… شرق أوسطي مصطرع.

بين تحقيقين

> تكاد تتحدّث بصورة روائية عن أحوال خروجك… كيف كان الفارق بين اعتقالين؟

< جلسات التحقيق مع الضبّاط الأتراك كانت لطيفة جدّاً، مقارنة بتلك التي أقامها لي أبناء جلدتي أيام اعتقالي في سورية؛ لكن أسئلتهم ونظراتهم ونبرتهم كانت تشي بذلك القلق التركي العميق من الوقوع في فخّ صراع الحضارات الشرق أوسطية: خوف على المشروع الأتاتوركي المتّجه غرباً ومن انعكاس وجهته؛ خوف على سياسة «صفر مشاكل» التي يتغنّون بها ومن التحوّل إلى مشاكل لا نهائية؛ خوف من الإرث الذي قطعوا معه يوماً على حاضرهم المشرق… وكان ذلك يبرّر على ما رأيت ذلك الاحتفاء، وتأكيد أتاتوركية الدولة متمثّلة بتمثال مصطفى كمال أتاتورك وصوره التي تتصدّر الواجهات الرسمية والعامة والشعبية.

عندما اعتقلت مطلع الثورة في دمشق، كان على رأس ما يسمّى اتّـحاد الكتّاب في سورية رجل أخرق جاهل وانتهازي ولا علاقة له بالأدب أو الثقافة، ناقشني يوماً في أسباب منع اتّـحاد الكتّاب العرب لروايتي سيد الهاوما، وأثناء حديثه عن الأدب وفي الأدب، كان كل ما يمرّ في ذهني هو عنوان كتابه الوحيد المعروف والذي أسماه الحيوان في الأدب العربي. هذا الرجل الذي يفترض أنه كان في موقع الدفاع عن الكتّاب والمثقّفين طلب على ما نقل لي عضو في المكتب التنفيذي لتلك المؤسّسة المسيطر عليها أمنيّاً، شأنها شأن كل مؤسّسات الدولة السورية، اجتماعاً للمكتب التنفيذي وأخبرهم أن القيادة ممتعضة جدّاً من هذا الكاتب الولد الذي هو أنا، خصوصاً عندما نشرت جهات إعلامية خبراً حول اعتقالي قالت فيه إني روائي، وقال إن القيادة طلبت منه أن تكتب مقالات بأقلام كتّاب في الاتّـحاد تثبت أني «كاتب نص كم..» لكن عضو المكتب الذي نقل لي وقائع المؤتمر يقول إنه ذكَّرهم بأني فزت منذ أربع سنوات بجائزة وزارة الثقافة لأفضل كاتب شاب في القصّة القصيرة، وأني فزت للتّو بجائزة دمشق عاصمة الثقافة العربية العربية للرواية، وسيبدو موقف من يكتب ضدّه ضعيفاً، وسيزيد في شعبية من يهاجمه، وأنها عملياً تزيد الانتشار على شاكلة المنع الذي يجعل من رواية عادية شيئاً استثنائياً.

بعكس ذلك تماماً كان تعامل «رابطة الكتّاب السوريين» التي ولدت في أحضان الثورة، حيث بادر منسّقها الشاعر نوري الجرّاح إلى الاتصال بي فور معرفته بخبر اعتقالي، وبذل جهوداً كثيرة في اتجاهات عدّة، حتى تمّ إنهاء اعتقالي وترحيلي إلى مخيّم جيلان بنار في أورفة، في منطقة تحاذي مدينة رأس العين شمال شرقي سورية.

> حدّثنا عن فترة احتجازك في مخيّم جيلان بنار في أورفة كيف كانت، وما هي ملاحظاتك والصور التي احتفظت بها ذاكرتك القريبة؟

< أول ما يلاحظه المرء في مخيّم اللاجئين السوريين هو التشدّد الأخلاقي، خصوصاً بالنسبة للعائلات الموجودة وهي من الريف السوري عموماً. ثمّة إحساس بالعري، منشؤه التدمير الهائل الذي أحدثه النظام في حياتهم، وصمت ولا مبالاة العالم… أنت لست في بيتك.

المستوصف المتواضع، شأن كل مرافق الحياة هنا، يعجّ بالمراجعين من مختلف الأعمار، الطبيب يصف معظم الحالات بأنها ناشئة عن أسباب نفسيّة، وينصح بالابتعاد عن مسبّبات القلق والضغط النفسي.

حين تمرّ في الدروب بين الخيام تلتقط بوفرة أطرافاً من أحاديث الريفيين بأصواتهم العالية: «ضربت ضيعتنا، استشهد إبن أخي، جارنا وزوجته وبناته الأربع قضوا تحت القصف الليلة…». الأطفال يلعبون لعبة ثوّار وجيش أسدي.. دهوم لبعض الخيم ودفاع مستميت عنها وصرخات الله أكبر… لعبتهم المفضّلة.

طفل تحت العاشرة عرف أني كنت ضابطاً في مطار تفتناز، فجاء برفاقه الصغار ليثبت لهم أنه قام باستطلاع المطار من دون علم أهله، ونقل المعلومات للثوّار حين سمعهم يقولون ليت أحداً ما يستطيع أن يستكشف المطار ويخبرنا عن الأسلحة التي فيه… عندما وصف المطار من الداخل، وجدت الكثير من أجزاء الصورة تنطبق على المكان الذي أعرفه جيداً.

الحالة في المخيّمات من الناحية المعاشية والخدمية في منتهى البؤس مهما حاولنا أن نجمّلها، لكن معظم سكّانه لا يرون ذلك البؤس. المخيّم لديهم إما محطّة استراحة، كما يفعل عناصر من الجيش الحرّ دفعت بهم كتائبهم قسراً إلى هنا، ليرتاحوا قليلاً ثم يعودوا إلى مواقعهم، أو لاتّقاء القذائف والقصف قليلاً.. لكن عندما يطرأ أي أمر جدّي فلا شيء يمنع من كسر ذلك الوهم، والتقدّم بطلب عودة إلى الحدود ودخول البلاد.. شاهدت عنصراً من الجيش الحرّ يكاد يتعارك مع الجنود الأتراك ليسمحوا له بالمغادرة في وقت مبكر، بعد أن هاتفه قائده من داخل سورية ليخبره أن زميله الذي حمل بندقيّته بدلاً عنه قد استشهد… رجل في السبعين كان يسابق الوقت برباطة جأش أسطورية لإنجاز الاجراءات ومغادرة المخيّم، لأن إبنه البكر أخبره بأن شقيقه أصيب وقد يستشهد في أي لحظة، وهو يريد أن يراه قبل أن يرحل إلى الفردوس الأعلى.

قبيلة من الأطفال الصغار مع أمّهاتهم الثلاث قاموا بتظاهرة عند مدخل المخيّم يريدون العودة إلى الداخل، والانضمام إلى آبائهم المنخرطين في الجيش الحرّ بعد تحرير قريتهم، ليعودوا إلى منازلهم رغم أنهم يعرفون أنها دمّرت في القصف وأصبحت قاعاً صفصفاً.

في المخيّمات يشعر المرء فعلاً بأن زلزالاً ضرب سورية، آثاره بادية للعيان، لكن الصدع الذي خلّفه يطلّ منه الأمل أكثر من أي شيء آخر، إنهم يتزوّجون هنا، وينجبون الأطفال هنا.. ولا خوف على الغد.

الربيع العربي

> ما الذي تراه من دور للربيع العربي وثوراته في تغيير واقع حال الإنسان في العالم العربي عموماً وفي سورية ضمناً؟

< أسقطت أحداث الربيع العربي في ما أسقطت، وَهم السيطرة الشاملة الذي كانت تعيش فيه المجتمعات المحكومة، وتتعيّش عليه الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة.

والسيطرة الشاملة التي نعنيها هي شكل من أشكال فرض السلطة التي سقطت تباعاً، كالاستعباد والتسلّط والاستعمار، وقد ظهر بعيد الحرب العالمية الثانية بروز ظاهرة الأجهزة الأمنيّة المخابراتية، التي تعتمد على جمع المعلومات والعمليات السرّيّة، وتفرض السلطة بغرس فكرة المعرفة الكلّيّة للحاكم بعقول المحكومين، وقدرته الفائقة على إلحاق أقصى الأذى بهم، من دون أن تكون لديهم أدنى فرصة لمقاومته أو محاسبته.

وقد تلقّفت الأنظمة العربية، وبخاصّة ذات الشكل الحداثي، هذا الأسلوب منذ الستينيات، وربطت وجودها معه بقوّة. وأدّى نجاحها في الهيمنة من خلاله، إلى ما يشبه الهوس به، حتى زجّ طرفه المادي، أي الأجهزة الأمنيّة في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياة المجتمع الذي أصيب بدوره بالوسواس المرضي الجماعي، بالحاكم «العليم القادر».

ومع انتهاء حقبة الحرب الباردة، وانفراط عقد نظام القطبية الثنائية، ودخول البشرية في طور العولمة، وما يقترن بها من سلطات جديدة متعدّدة، وعابرة للحدود، بدأ نجم السيطرة الشاملة وأدواتها بالأفول تدريجاً في معظم بقاع العالم، ليحلّ محلّه شكل جديد، تقوده ذهنية واقعية تقرّ بالنسبية، ويستخدم أدوات القوة الناعمة العصرية، كالاقتصاد والاعلام والشبكات العابرة.

لكن النخب العربية الحاكمة لم تقرأ المتغيّرات كما ينبغي، بل استهزأت أحياناً بقوّة الأدوات الجديدة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، وركنت بثقة إلى الأسلوب الأمني الشامل الذي تُختبر فاعليته وصلاحيته كل يوم، إلى أن حرق البوعزيزي نفسه، لتكشف الأحداث اللاحقة أن ذلك كان مجرّد وهم، وأن المياه تسرّبت إلى ما تحت أساسات الديكتاتوريات التي راحت تغوص.

لقد منحت سابقة تونس ومصر الأنظمة الأخرى فرصة مراجعة استراتيجيّتها للسيطرة، لكن الديكتاتورية ذات الطبيعة الاطلاقية والطبع المتغطرس، رفضت قبول الحقيقة، وفضّلت الهروب إلى مواقع أكثر قدامة، واستعادت القاعدة التي تقول: من ثقلت وطأته وجبت طاعته، واتّـجهت إلى تطبيق السيطرة المادية المباشرة بوساطة الجيوش والسلاح العاري، وكان أن ارتكبت الفظائع في ليبيا واليمن وسورية، وطبعاً بلا جدوى.

أحوال النخب

> لكن كيف ترى الى الظروف الجديدة التي تحكم اليوم أحوال النخب العربية الصاعدة في إطار الربيع العربي، وما الذي تطالب به هذه النخب؟

< بالنسبة إلى النخب الجديدة في بلدان الربيع العربي، التي كان لهذا التحوّل فضل في اقترابها من السلطة، فهي مطالبة بالقطيعة مع الذهنية والسلوك الشموليين، وملزمة أمام شعوبها بالتأسيس لقواعد الحكم الرشيد الحديثة، وتطويرها.

إن تحديد الاستراتيجية والآليات الجديدة للسيطرة السياسية، التي لا بد منها في مجتمعاتنا، كما في أي مجتمع آخر حديث، يحتاج الى مختصّين ودارسين وساسة جُدد. في المرحلة الانتقالية المتّسمة بالفوضى وعدم اليقين، تبرز مسألة السيطرة كقضية تنظيمية ملحّة. وبسبب عدم اكتمال الملامح والمعايير، لا نستطيع أن نسبر مدى تمثّل النخب للقواعد الجديدة واستراتيجيّتها، لاكتساب السلطة وممارستها، إلا من خلال معيار أولي، هو مدى تأسيس هذه القوى لنفسها ولسلطتها، على العنف المعنوي والمادي، أي مقدار مدنيّتها.

> لكن، ألا ترى معي أن ثمّة تحوّلاً في سلوك الفئة الحاكمة في سورية التي تخلّت عن دور الشريك الى دور التابع؟

< الظروف الإقليمية والدولية السلبية التي أحاقت بالأسد الإبن، وانتهت بإخراجه من لبنان، أجبرته على القبول بموقع التابع، في مقابل رعاية «حزب الله» لمصالحه في لبنان، التي يعتقد أركان النظام السوري أنها النافذة التي يمكن أن تجلب لهم الرياح الأكثر خطورة >

المشاهد السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى