الرواية السورية في عامها الثمانين/ رياض معسعس
مرت بمراحل تعتمد في تقسيمها على تواريخ أحداث سياسية كبيرة
نشأت الرواية السورية في مدينة حلب، هذه المدينة التي كانت آخر مدينة في طريق الحرير، والتي كان لها باع طويل في الأدب العربي؛ ففيها نبغ المتنبي، وأبو فراس الحمداني، في عهد سيف الدولة، وفي عصرنا الحديث باتت حلب عاصمة سوريا الاقتصادية المنفتحة على كل الطرق. فلا غرو أن تنشأ فيها أولى بذور فن الرواية، وفيها يبرز كتاب كثيرون في هذا الفن، ومنها سيخرج أدباء جدد يروون مأساتها في ظل حكم قام بتدميرها وارتكب مجازر بأهلها.
ثمانون حولاً مرت على مولد الرواية السورية الأولى في هذه المدينة -هذا َإذا وصفناها بالرواية- بكل ما تعنيه هذه الكلمة بالمعنى الأدبي، فرواية «نهم» للكاتب السوري شكيب الجابري (الذي كان أول سوري يتحصل على دكتوراه في علوم الفيزياء من سويسرا، وهو ابن مفتي حلب آنذاك) صدرت عام 1937، وجاءت متأخرة عن مثيلتها الأولى في العراق «جلال خالد» للكاتب العراقي محمود السيد، التي صدرت عام 1928، وبربع قرن تقريباً عن قرينتها «زينب» للكاتب المصري محمد حسين هيكل التي صدرت عام 1912، وإذا اعتبرنا أن رواية دون كيشوت لميغل دي سيرفانتس (1615) أول رواية في أوروبا الحديثة، تكون قد تأخرت رواية «نهم» عنها أكثر من ثلاثة قرون. لكن البعض يرى أن الرواية انطلقت من حلب مع فرانسيس المراش الذي أصدر روايته «غابة الحق» عام 1865 ثم أتبعها برواية «در الصدف في غرائب الصدف» عام 1872، حيث حاول الكاتب المتأثر بالثورة الفرنسية وبباريس التي زارها، إظهار افتتانه بالثقافة الأوروبية ورفضه واقع الجهل المتفشي في سوريا، لكنّ آخرين يرون أن هذين العملين لم يرتقيا إلى مستوى الرواية.
لكنّ السوريين ربما انفردوا بظاهرة لم تكن موجودة في بقاع عربية أخرى، بل حتى إنها ظاهرة دمشقية عريقة وهي الحكواتي -وكنت شخصياً أحضرها بحكم قرب منزل والدي من المسجد الأموي حيث كان مقهى «النوفرة» يقدم سهرات الحكواتي، الذي كان يسرد قصصاً مثيرة كقصص عنترة، والزير سالم، والظاهر بيبرس… ومعها يتفاعل الجمهور- غير أننا لا يمكن أن نقول إن ما كان يقدمه الحكواتي من قصص مثيرة قد شكّل وعياً أدبياً قاد إلى الوصول إلى الفن الروائي بالمعنى الأدبي للكلمة، بل كان عبارة عن سرد حدث تاريخي في قالب قصصي مثير مع شيء من المسرح. ولا ننسى هنا أن تاريخ صدور الرواية السورية الأولى تزامن مع الانتداب الفرنسي لسوريا وثورة القسام في فلسطين، وبالتالي كان هناك تأثير مباشر للجو السياسي العام الذي طبع تلك الفترة في فنون أدبية أخرى متقدمة كالشعر، والقصة القصيرة، أو فن المقالة، تزامن مع سلب لواء إسكندرون ليصبح تحت سيادة تركية، واندلاع الحرب العالمية الثانية التي جمدت الحركة الأدبية نوعاً ما.
منذ البدايات المتواضعة لنشأة الرواية السورية وحتى الآن، صدر في سوريا أكثر من سبعمائة رواية، وقد تصاعدت وتيرة الإصدارات في الفترة الأخيرة، وتنوعت أشكالها ومضامينها ومدارسها من الرواية التاريخية إلى الرواية الاجتماعية، والفلسفية، والبوليسية.
ورغم أن البعض قسم مسار الرواية السورية إلى عدة مراحل تعتمد في تقسيمها على تواريخ أحداث سياسية كبيرة كالنكبة والنكسة وحرب تشرين وتأثُّر الفن الروائي فيها، لكني أعتبر أن الرواية السورية مرت بمراحل ثلاثة أساسية:
> مرحلة ما قبل حكم عائلة الأسد (1937 – 1970).
> مرحلة حكم عائلة الأسد (2011 – 1970).
> مرحلة ما بعد الثورة (2011 – …).
عبّرت عنها أجيال من الكتاب، متأثرين بالتراث تارة، وبتطور الفن الروائي الغربي تارة أخرى، ولكن بشكل أساسي بأيديولوجية السلطة، وممارساتها التسلطية والقمعية وسيطرتها على وسائل الإبداع من طباعة ونشر وتوزيع وإعلام، ونقابات، واتحادات، في عملية تدجين ودعاية للنظام القائم.
في المرحلة الأولى بقيت الرواية السورية مرتبطة بطابع الحنين إلى الماضي، أو الافتتان بالغرب، وموزعة بين أسلوب المقامات ولغة السجع، والوقوع تحت تأثير الروايات الغربية، والانطلاق من الحياة القروية، حيث إن القرية والوضع الاجتماعي والاقتصادي فيها والعادات الاجتماعية، والفقر، والمعاناة، والجهل، كلها موضوعات طُرحت باستمرار في الرواية السورية في تلك الفترة التي تعكس حال المجتمع الخارج لتوّه من مرحلة الاستعمار.
ومنذ بداية الخمسينات بدأت الحياة السياسية في سوريا تتأثر بشكل خاص بالقضية الفلسطينية بعد هزيمة الجيوش العربية في عام النكبة (عهد الانقلابات العسكرية والوحدة مع مصر)، فظهرت نصوص مثل «جيل القدر» و«ثائر محترف» لمطاع الصفدي، و«المهزومون» لهاني الراهب، و«في المنفى» لجورج سالم و«المغمورون» لعبد السلام العجيلي، و«مدارات الشرق» لنبيل سليمان. و«خمر شباب» لصباح محيي الدين، و«شخصيات تمر» لإدمون بصال، و«الظمأ والينبوع» لفاضل السباعي. وبرز كاتب جديد جاء من الطبقة المعدمة (شبيه بالكاتب المغربي محمد شكري صاحب الخبز الحافي من حيث المنشأ) ليملأ الساحة الأدبية السورية ويرتقي فيها إلى الروائي الأول دون منازع، وبالرواية السورية إلى مستويات تضاهي مستويات الرواية في مصر التي ارتقت إلى مستويات عالمية على أيدي نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ويوسف إدريس. إنه حنا مينه، الذي شكلت روايته «المصابيح الزرق» نقطة انعطاف مهمة من الرواية الرومانسية كـ«مكاتيب الغرام» لحسيب كيالي وسواه، إلى الاشتراكية الواقعية. وخلال نصف قرن من العمل الروائي بات حنا مينه من أغزر الكتاب إنتاجاً (ثلاثون رواية) وأيضاً أشهرهم على الإطلاق، وأكثرهم انتشاراً حتى على مستوى العالم العربي. وكانت موضوعات قسم من أعماله تدور حول البيئة الفقيرة التي عاش فيها كما في روايتيه «المستنقع» و«بقايا صور»، وكذلك حول عالم البحر حتى كُنِّي بأديب البحر، إذ خصص له مجموعة كبيرة من أعماله: «الشراع والعاصفة»، و«المرفأ البعيد»، و«الياطر». وهذه الأخيرة كانت من روائع الفن الروائي عند حنا مينه، الذي حقق عبر «الثلج يأتي من النافذة» و«الشمس في يوم غائم» شهرة كبيرة حتى أطلق عليه البعض مكسيم غوركي سوريا. وقد برز كتاب محدثون في هذه الفترة كوليد إخلاصي، في «شتاء البحر اليابس»، و«أحضان السيدة الجميلة»، وغادة السمان (أكبر وأغزر كاتبة سورية إنتاجاً من بين الكاتبات السوريات وهن كثر ككوليت خوري، وليلى بعلبكي، وسواهما)، في «كوابيس بيروت» و«ليلة المليار»، ونبيل سليمان في «هزائم مبكرة» و«ثلج الصيف»، وسليم بركات (كردي وأفضل من كتب باللغة العربية) في «هايدرا هوداهوس»، وخيري الذهبي في «صبوات ياسين».
ومع حركة الترجمة، والاطلاع على أعمال الغرب برزت أسماء جديدة تأثرت بتيارات الرواية العالمية، وبالمدارس الفكرية كالوجودية والقومية، مثل محمد راشد في «المحمومون»، و«غروب الآلهة»، وجورج سالم في «المنفى» وسواهما. في هذه الفترة من نظام حكم عائلة الأسد، أول جمهورية وراثية في العالم العربي، ظلت الرواية السورية مرتهنة إلى نفوذ أيديولوجي يساري وضيق على حساب الاجتهاد الفردي الحر في كتابةٍ منعتقةٍ من أي شروط بعد أن سُدت الطرق في وجه أي إبداع يعالج الواقع الحقيقي. فالمشكلة الأساسية في سوريا هي تسخير مجتمع بأكمله في خدمة نظام وعائلة حاكمة وليس العكس. ولكن رغم كل حالات التسلط الفكري، والرقابة، والمنع، استطاع بعض الكتاب تمرير أعمال تنبأت بالثورة وبحتمية سقوط نظام ثقافي بأكمله عبر سرود مجازية أو رمزية، كخالد خليفة في «مديح الكراهية»، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، وممدوح عزام في «قصر المطر»، وفواز حداد في «السوريون الأعداء»، وروز ياسين في «نيجاتيف»، وحيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر»، و«القوقعة» لمصطفى خليفة التي تروي أولى تجارب أدب السجون، «وحمام زنوبيا» لكاتب المقال، و«بالخلاص يا شباب» لياسين الحاج صالح (باتت سوريا أكثر بلد منتج لأدب السجون ولا يمكننا في إطار مقال أن نورد جميع الأسماء والأعمال).
ثم جاء أدب ما بعد الثورة ليقلب النمط السائد رأساً على عقب، فظهرت أعمال كثيرة حدثية، كون الثورة ما زالت حدثاً ساخناً، وتحتاج إلى وقت من الانتظار والتروي لتبتعد عن الرواية التسجيلية أو الوثائقية. ومن وجهة نظرنا أن الرواية السورية المستقبلية ستكون رواية مهجر، كون النظام هجّر ملايين السوريين الذين انتشروا في أوروبا وتركيا، ومنهم سيبرز كتاب جدد بإبداع مبتكر بحكم احتكاكهم المباشر بالآداب الغربية، أما مع استمرارية النظام في الداخل فإن الأمور ستبقى على حالها إذا لم تكن أسوأ.
الشرق الأوسط