الريف العلوي في مفترق مفصلي/ ميشيل كيلو
تخضع منطقة الساحل السوري، وبالذات منها محافظتا اللاذقية وطرطوس، لما تخضع له بقية محافظات سوريا، ومع أنها لا تقصف اليوم وتدمر بالمدافع والدبابات والطائرات، فإنها لن تنجو من مصير بقية الوطن إن تمرد أهل الساحل أو ثاروا، أو نظموا صفوفهم خارج إطار الأسدية، الأمر الذي يطرح أكثر فأكثر على جدول أعمال الواقع، وليس شيئا مستحيلا أو مستبعدا، كما يعتقد كثيرون.
يحتل المنطقة الساحلية، وبالأخص منها المنطقة العلوية، شيء يسمونه «جيش الدفاع الوطني»، يبدو أنه أخذ اسمه من «جيش الدفاع الإسرائيلي»، هو قطعات شبه عسكرية تضم بصورة رئيسة شبيبة عاطلين عن العمل، استدرجت إلى العمل الأمني والقمعي المسلح وفق عقود لا تذكر نوع شغلها أو مكانه، وتكتفي بحمل توقيع «العامل» وتعهده بالعمل في أي مكان، ليلا ونهارا، ولأي فترة تطلب منه. بما أن الشغل يتطلب حمل بندقية وحماية النظام من الشعب، فإن العامل يرابط في أماكن محددة من المنطقة الساحلية، بما فيها القرى العلوية، حيث يسهر على:
– ضمان انصياع العلويين لأوامر دمشق، بعد أن شرعوا يفقدون ثقتهم بهم ويتساءلون بحرقة: لماذا يقتل أولادنا ولم يقتل في المعارك المستمرة منذ عامين ونصف العام أي واحد من آل الأسد أو مخلوف أو شاليش؟ أليست الأصولية ضدهم، أم أنها لا تضمر العداوة إلا لنا، ولا تريد قتل أحد منهم وتكتفي بقتل أولادنا، مع أنهم ليسوا في الأصل أعداء أحد، ولم يقرروا يوما مقاتلة أحد، ويساقون إلى القتال مرغمين، تنفيذا لسياسات وأوامر نظام يعادي جميع مواطني سوريا بلا استثناء؟
– استمرار الحياة العادية في الريف العلوي، رغم ما يتكبده سكانه من خسائر فادحة في الحرب التي يشنها النظام ضد الشعب، ويعيشونه من حزن وقلق متعاظمين، ومن كوارث لم يعد باستطاعتهم السكوت عنها. وبما أن مظاهر رفضهم للنظام وسياساته تتزايد مع كل جثمان يسلم إليهم، فإن «عامل» جيش الدفاع مكلف بإبلاغ الأمن ما يقوله الناس ويفعلونه، وبالمبادرة إلى قمعهم دون رحمة، كما حدث مرات عديدة في مناسبات تكاثرت في الآونة الأخيرة، تجلت في نزع صور الأسد الأب وابنه من مواكب الجنازات، ورفض حضور أي مسؤول رسمي خلال مراسم الدفن، والأعطيات المالية التي تقدم لذوي الضحايا، والقيام بإلقاء خطب تنتقد إرسال الشباب إلى الموت في سوريا، بدل إرسالهم إلى الجولان وفلسطين للاستشهاد فوق ثراهما الطاهر.. إلخ.
وقد تعاظمت في الأشهر الأخيرة ظاهرة على قدر عظيم من الخطورة، هي امتناع الشباب عن الالتحاق بـ«خدمة العلم» وبصفوف قوات الاحتياط في الجيش، وكثرت حوادث الفرار من الوحدات المقاتلة، والاعتداء على الضباط الموالين، ومغادرة سوريا إلى الخارج، رغم معرفة المغادرين بأنهم لن يستقبلوا من المعارضة ولن ينالوا ثقة معظم فصائلها ولن تساعدهم على مواجهة مصاعب العيش أو تضمهم إلى صفوفها. في المقابل، تعاظمت أيضا ظاهرة الدوريات التي يقوم بها «جيش الدفاع الوطني» في أنحاء الريف العلوي، وكثرت ملاحقات واستدعاءات واعتقالات الشباب، فضلا عن حوادث خطفهم المتعاقبة، التي تتم بسرية ومن دون أن يفصح عن الجهة التي تقوم بها، مع أن أهل الريف يعلمون أن الفاعل هو النظام، الذي يزج بهم في معركة قاتلة بحجة الدفاع عنهم وحمايتهم، ويدركون أكثر فأكثر أنه مصدر الخطر الذي يهددهم، ويتذكرون أنهم كانوا يعيشون قبله في سلام مع بقية مواطنيهم، ويمارسون حياتهم الطبيعية، وأن الظلم الذي كان واقعا عليهم شمل غيرهم أيضا، لأنه كان ظلما اجتماعي الأصل والمنبت وليس طائفيا أو مذهبيا، ولو كان كذلك لما دخل حافظ الأسد نفسه وآلاف الضباط العلويين إلى الجيش، وعرفت سوريا قبل انقلاب العسكر البعثي عام 1963 نوابا ووزراء وأساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ومعلمين واقتصاديين وإداريين علويين. بدأ العلوي يدرك أنه يموت من أجل سياسة فاسدة وأسر تتحكم فيه وتهدر حياته دونما سبب غير إدامة حكمها، الذي لطالما عرضه هو أيضا للقمع والإذلال والحرمان، وزج بأعداد هائلة من بناته وأبنائه في السجون، ولم تعد له وظيفة غير دفعه إلى الموت دفاعا عن مصالح ليست مصالحه، وضد مخاطر تهدده بسبب سياسات وتدابير النظام بالذات، وليس لأي سبب آخر.
تقول المعلومات إن الريف العلوي وصل إلى مفترق مفصلي جعله يخرج عن صمته حيال قتل أولاده، ووضعه أمام مستقبل حافل بالأخطار، هو الخاسر الوحيد فيه حتى في حال انتصر النظام على الشعب، ما دام انتصاره سيكون باهظ التكلفة بالنسبة إليه وسيعيده عقودا عديدة إلى الوراء وقد يخلق حالا من العداء بينه وبين بقية مواطنيه تستمر لقرون.
يتعرض العلويون لظلم مزدوج: من نظام يرسلهم إلى الموت دفاعا عنه، لأنه لا يكترث أبدا لمصيرهم، ومعارضة تحملهم المسؤولية عن سياسات نظام يضحي بهم على مذبح مصالحه الخاصة واستبداده. واليوم، وقد صار حل المعضلة السورية رهنا بإسهام العلويين أيضا في النضال من أجل الحرية، فإننا أصبحنا بحاجة إلى موقف صحيح تتخذه المعارضة يرى فيهم مواطنين يقتلون بدورهم على أيدي استبداد لم يعد لديه ما يقدمه لهم غير الموت، فلا أقل من أن يقدم بديله لهم أمل الحياة والكرامة والأمن، كي لا نضيع وتضيع بلادنا إلى الأبد!
الشرق الأوسط