تُزْعِجُنِي هذه العِبَارة، لأنَّها تَمْجِيدٌ للماضي، في مُقَابِل الحاضر والمستقبل، وهي تعبير عن اسْتِغْراق الماضي للحاضر، وتَعْتِيم عن المستقبل، وحَجْب له، كما أنَّها اخْتِزال للجمال في لَحْظَةٍ واحِدَة، أي في اللَّحْظَة التي نَنْتَمِي إليها، أو لِما نَعْتَبِرُه زَمَننا نحن، دون زَمَن الذين جاؤوا بعدنا، أو ليسوا من جِيلِنا.
هكذا كان آباؤُنا يُكَلِّمُونَنا، يَعْتَبرونَ زَمَننا، زَمَنا فاسِدا، وزمنا اخْتَلَّتْ فيه المعايير والقِيَم، والإنسانُ فيه، والمقصود، هنا طبعاً، الشُّبَّان، ممن لا يَنْتَمونَ لجيل الآباء، لم يَعُد هو الإنسان نفسه، لأنَّ أخْلاقَه فَسُدَتْ، ولم تَعُد هي أخلاق الآباء نفسها. ثمَّة خُروج عن الطَّريق، وانْحُرافٌ أصابَ المجتمع، وجعل «الابْنَ» هو غير «الأب»، أو هو صُورَة لا تُطابِق أصْلَها، بل تَرْفُضُه، وتَنْحرِف عنه، وتُشَوِّهُه، وفق ما يقولُه الآباء، أو مَنْ هُم من جيل الآباء.
لِماذا لا نَنْظُر في المرآة من زاوِيَة أخرى، ونقرأ الصُّورَة بغير هذه القراءة السَّائِدَة، التي تجعل من الابْنَ نفسِه، يصير في مكانة الأب نَفْسها ، خُصوصاً حين يتقدَّمُ به العُمُر، ويُصْبِح له هو الآخَر ماضيه، أو زَمَنه، الذي كُلَّما الْتَفَتَ إليه، رآهُ جَمِيلاً، قياساً بمن حَلُّوا مَحلَّه، ممن صارُوا أبناءَ الحاضر؟
حين نكون في مُقْتَبَل العُمُر، فنحنُ نكون أكثر إقْبالاً على الحياة، وَبَصَرُنا مُمْتَدٌّ إلى الأمام، نَرْمِيه بعيداً، نحو ما نطمح إليه، وما نحلُم به، أو ما نَمْلأُ به نُفُوسَنا من طُمُوحاتٍ. لا نلْتَفِت إلى الوراءِ، والوراء لا يَشْغَلُنا، أو لا نَفَكِّر فيه، لأنَّ الأمام، هو زَمَنُ اليَفَاعَة والشباب، وهو امْتِدادٌ، وصيرورة، وليس تراجُعاً، أو الْتِفاتاً، كما يَحْدُثُ عند الآباء، الذين لا يَرَوْنَ في الحاضِر ما يُقْنِعُهُم، أو يَنظُرون إليه باعتباره زَمَن غيرهم، وهُم فيه غُرباء، ما يعني أنَّ الأب، يَسْتَسْلِم لتاريخِه، لِتُراثِه، لِزَمَنِه هو، هذا الزَّمَن الذي يَتَّسِمُ بالتَّوارِي، وبالانْكِماش، والتَّراجُع، أو الاحْتِجاب والغُروب. الإنْصاتُ لخِطاباتِ الآباء، يَفْضَحُ هذه النَّزْعَة الماضوية في رؤيتهم للحياة، وفي تمجيدهم لِماضِيهِم، الذي يعتبرونَه هو المِثال، وأنَّ كُلَّ ما كان فيه، كان حَيّاً وصالِحاً، وأنَّ ما جاء بَعْدَه، حدثَتْ فيه أعطابٌ كثيرة وانْحرافاتٌ، هُم لا يقبلونها، مهما كانتِ المُبَرِّراتُ التي يُقَدِّمُها الأبناء، في تفسير الفَرْقِ بين ما يَمْضِي، وما هو قائمٌ وموجود، أي بين الماضي والحاضر. فعبارة «السَّلَف الصَّالِح»، التي اسْتُعْمِلَت في الخِطاب النهضوي، بشكل خاصٍّ، كانتْ تعبيراً عن هذا الحَنِين إلى الماضي، والنَّظَر إلى الحاضر بنوع من الشَّك والرِّيبَة، أو بنوع من الازْدِراء والتَّبْكِيتِ. ففي هذا الخطاب، الذي كان يَدَّعِي النُّهوض، والخُروج من «الانحطاط»، أو «الغيبوبة» التي اسْتَغْرَقَتِ العرب والمسلمين، لِما يُناهِز ستمئة سنة تقريباً، يبدو الماضي هو البديل، وهو الحَلّ، وأنَّ المُستقبلَ لا يوجَد إلاَّ في الماضي، أي في ما كرَّسَه السَّلَف من قِيَمٍ، وأنَّ الخَلَفَ، هو، بهذا المعنى، خَلَف «فاسِد»، وأنَّ «الأّمَّة» لن تَصْلُحَ، إلاَّ بما صَلُحَ به ماضيها، والمقصود هُنا، فِكْر السَّلَف وثقافتُه وقِيَمُه وأخلاقُه، التي، كما يبدو في هذا الخِطاب النُّكُوصِيّ، هو ما ينبغي العودة إليه واسْتِعادَته، لِتَسْتَقِيم الأمور، ونعُود إلى ما كُنَّا عليه، حين كُنَّا «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت للناس».
المُثِيرُ في هذا الحَنِين إلى الماضي، وفي هذا الالْتِفات إلى الخَلْفِ، هو تَبَنِّي الأبناء لَه، في مُواجَهَة أخْلافِهِمُ، هُمْ أيضاً، حين يُصْبِحُون آباءَ، وكأنَّ الماضي، هو سِلاحٌ، بقدر ما نَحْضُرُهُ ونَرْفُضُه ونُواجِهُه بالسُّخْرِيَة والاسْتِهْجان، بقدر ما نَعُودُ إلى اسْتِخدامِه، نحن أيضاً، عندما يَعْبَثُ بنا الزَّمَن، ويأخُذُنا إلى ماضيه، لِنُواجِه به أبْناءَنا، أو الأجْيال التي جاءتْ بعدَنا. لا أحَد يَنْجُو من هذه المُفارقة، إلاَّ بقدر ما يكون تربَّى على النَّظَر إلى الأمام، وانْخَرَط، كُلِّياً، في الصيرورة، وفي التَّحوُّلات الاجتماعية والثقافية التي تَحْدُثُ في المجتمع، وتنعكس على فكر الإنسان، وعلى عقله، وطريقتِه في النَّظَر إلى الأشياء.
ثَمَّةَ مَنْ يَمْلِك هذا النَّوْع من الوعي، أو ينخرط فيه، بأرْيَحَيَّة وانْشِراح، وثَمَّة من يَثْقُل الزَّمَن على كاهِلِه، ويَنْخَرِط في شيخُوخَة تأْكُل فِكْرَه وعَقْلَه ووِجْدانَه، ويَسْتَسْلِم إلى الخَرَفِ، ويصبح بالتَّالي، عُرْضَةً لمرض الماضي هذا، في الوقت الذي كان عليه أن يظلَّ مُقيماً في حاضره يتأمَّلُه ويقرأه، ليس بالنَّظر إلى ما كان، بل بالنَّظَر إلى ما هُو قائِم وجَارٍ، وما يَحْدُثُ في النَّهْر من جَريانٍ، لا البقاء في مياه البِرَك الآسِنَة، الضَّحْلَة، التي تُعَشِّش فيها الطّحالب، والطُّفَيْلِياتُ.
لا يَحْدُثُ هذا للآباء وَحْدَهُم، بمعنى لعموم النَّاس فقط، بل أنَّ المُثَقَّف نفسَه، يَسْقُط في فَخِّ السلف هذا، ويُصْبِح بدوره أباً، بالمعنى الماضوي، حين يَفْقِدُ رَجاحَة العَقْل والنَّظَر، أو تَدْلَهِمُّ عليه الأفْكار، ويَأْسَرُها التِّكرار والاسْتِعادة، أو حين يرى الشُّبَّانَ من الشُّعراء والمسرحيين والقصَّاصِين والمُفَكِّرين والكُتَّاب عموماً، شَرَعُوا في التعبير عن أنفسهم، بالظُّهور في المنابر الإعلامية وبنشر كتاباتهم والمُشاركة في اللِّقاءات الثقافية والفنية، يُطْلِق الأحكام، هُنا وهُناك، بإدانة هؤلاء الشُّبَّان، واسْتِهْجان ما يكتبونَه، أو باعتباره لم يَرْقَ لِما قاله، أو كَتَبَه هو، أو مَنْ هُم من جيله، رغم ما قد يكون في كلامه من صوابٍ، من دون أن ينظُر إلى هؤلاء الكُتَّاب الجُدُد، باعتبارهم اسْتِمراراً لفكره، ولِما قد يكون فَتَحَهُ أمامهُم من طُرُق، وليس لتجربته، التي هي تجربة لا تَقْبَل الاسْتِنْساخَ، في جوهرها، إذا كانت تجربةً مُحْكَمَة البِناء، وذات معنى إبداعي خاصّ، أي فيها إضافاتٍ، هي ما يَسْتَمِدُّه القادِمُون ويَسْعَوْن لِتَجاوُزِه، بالإضافَة والابْتِكار والخلق.
ألا يتحمَّل هؤلاء «الآباء» الكُتَّاب، مسؤولية بعض ما يعتبرونه طَيْشاً في كتابة «الأبناء»، كونهم لا يَرْعَوْن هؤلاء الأبناء، ولا يُنْصِتون إليهم، وَلا يقْتَرِبُون منهم، ورُبَّما لا يقرأونهم؟
إنَّ فِعْلَ الزَّمَن في الإنسان، لا فكاك منه، فابن اليوم، هو أبُ الغد، لكن، حين ننْتَبِه إلى فرق المسافة بين الزَّمَن البيولوجي، الذي يَبْلُغُ بِنا أرْذَلَ العُمُر، والزَّمَن الفِكري، أو العقلي، فنحن قد نُؤَجِّل رذَالَة العُمُر هذه، ونكون بقدر ما نَمْتَلِك من تجاربَ ما عِشْناه في ماضينا من أحْداث، وما قرأناه وعرفناه ورأيناه ومرَّ بِنا مِنْ مِحَنٍ، بقدر ما نكون مُنْتَمين لِزَمَن الأبناء، لأنَّنا نُوجَدُ فيه، مهما كان فرق السِّنّ. فالفِكْر الحَيّ المُتَجَدِّد اليَقِظ، الذي يُقاوم الهَرَم ويُواجِه الزَّمَن البيولوجيَّ بمعرفة ما يجري في زمن الأبناء، وما يقترحونه من أفكار وأعمال ومشاريع والطَّريقة التي بها يُفَكِّرون، وما يَسْتَحِبُّونَه، أو يمليون إليه من أشياء وطبيعة أذواقهم ورغباتهم، وحتَّى طموحاتهم، فنحن سنكون شارَكْناهُم هذه الحياة ووَضَعْنا أُنفسَنا رَهْن فِكْرِهم هذا، الذي نقول فيه رأْينا، ونحرص على الاعتراف برجاحَتِه، إذا ما كان فكراً راجِحاً، وننْتَقِدْهُ، من باب التَّقْويم والتَّوْجيه والتَّصْوِيب وإبْداء الرأي والمشورة، إذا ما بدا لنا أنَّ فيه تَهُوُّراً وطَيْشاً، حتَّى لا يَهْدر هذا الشَّاب وَقْتَه في أشياء قد تُضَلِّل طريقَه، أو تَجُرُّه لغير ما يرغَبُ فيه.
لا أتكلَّمُ هُنا بمعنى الوصاية، ولا بمعنى «الزَّمن الجميل!»، الذي هو زَمَنُ الماضي، وأنَّ غيره هو زمن ردِيء، بل أتكلَّم بمعنى فَتْح الطُّرُق أمام القادِمِين، لا إغلاقها، وادِّعاء أنَّ ما كان هو أحْسَن مما هو موجود، أو مقبل. هذا السلوك وهذا الخطاب، هو سلوك وخِطاب مُتهافِتٌ ماضوي وغارق في نرجسِيَةٍ مَرَضِيَّةٍ سَقِيمَة وعَقِيمَة، وهو سلوك وخطاب ليس على صواب، ولن يكون صائباً وعاقِلاً، إلاَّ حين ينظر إلى الزَّمن، باعتباره صيرورة، وانتقالاً، وأنَّ السَّابق يَشُدُّ بِيَدِ اللاَّحِق، ويَفْتَح في وَجْهِه السُّبُل ويُذلل العقبات أمامَه، بما له من خِبّرَة ومعرفةٍ، وما له من سلطة رمزية، إذا ما اسْتعْمَلَها، بهذا المعنى المُنْشَرِح، سيكون قَدْ خدم هؤلاء الأبناء، وكشَف لَهُم أنَّ الجمالَ، هو جَمالٌ في خِصال الإنسان، وفي ما يقترحُه من أفكار حَيَّة، وفي هذه «الرُّوح الحيَّة»، بتعبير الصديق الشاعر العراقي فاضل العزاوي، التي لا تَفْقِد شبابَها، وحَيَوِيَّتَها أبداً، وليس في الزَّمَن، الذي هو ماءٌ سائِلٌ يجري من تَحْتِنا، وعلينا أنْ نعرف كيف نُجاريه ونُدارِيه، لِنَسْبَح فيه بحذق وذكاء، حتَّى لا يَجْرِفَنا إلى طَمْيِه، أو جُرَفِه الهَارِيَةِ.
كاتب مغربي
القدس العربي
