صفحات الرأي

السؤال الفلسفي في ثورتنا: هل اللاعنف ممكن فيها على الاطلاق؟


    شبلي ملاّط

هذا المقال جزء من حوار تقوده “منظمة الحقّ باللاعنف” في منتديات عالمية مختلفة، آخرها في بيروت الخميس 17/7/2012، وأرى لا بدّ من اهدائه الى روح غسّان تويني الذي درس رسالة كانط عن السلام الدائم في جامعة هارفرد عندما كان طالباً فيها قبل نصف قرن ونيّف، وأغناها بملاحظات مكتوبة تُنشر قريباً.

سوريا على بال الجميع، والعنف في سوريا في المقدّمة، ما يجعل كل حديث عن الثورة واللاعنف كأنّه ضربٌ من الهذيان. 

لكنّ الثورة في سوريا ليست سوى إحدى الثورات العارمة في المدِّ الشعبي الذي بدأ في لبنان غُرَّة عام 2005، وأُحيِيَ في ايران في صيف 2009، وشمل المنطقة العربية منذ أوائل عام 2011.

هذا الامتداد الثوري – والثورة في مصطلحنا المبسَّط قيام الناس ضدَّ الحكّام بجموع غفيرة – هو الحدث الكبير، والثورة السورية وعداها التفصيل.

هذا الحدث كبيرٌ مرّتين: كلُّ ثورة عملٌ جبّار في تاريخ الأمم، هذا تحصيل حاصل. لكن الثورة المنتشرة على امتداد منطقة تضمّ نصف مليار آدمي منذ بدايتها المتعثرة عام 2005 حتّى انتشارها الواسع في عام 2011، تتألق في تاريخ الأمم بطبيعتها السلميّة اللاعنفية المذهلة.

يترفّع هذا المقال عن التفاصيل المختلفة التي يتناولها المؤرّخ، على أهميّتها، ويقتصر على سؤال فلسفي ثابت مذ بدأ الانسان يربط عمله السياسي بحجج تبرّر صحته: هل من الممكن للثورة أن تتوسّل بطرق اللاعنف على الاطلاق، أي أن تكون طبيعتها المميَّزة على طريق عبور المجتمع الثائر الى دولة القانون هي اللاعنف المطلق؟

هذا السؤال الفلسفي يتعالى على تقصيّات المؤرخ، أو الناشط السياسي، برغم أن مثل هذه التفاصيل التاريخية والأعمال الميدانية أساسية لكلّ ثورة قائمة في بلادنا، ولا أتعرض الآن لها برغم أهميتها.

السؤال الفلسفي الصافي إذاً هو الآتي: هل يمكن الثورة أن تكون لاعنفية على الاطلاق؟

الجواب في الواقع ايجابي. الثورة التي عمّت اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي من 1989 الى 1991 كانت ثورة لاعنفية على الاطلاق. فعدا مراحلها الأخيرة في رومانيا، انهار النظام القديم من دون أن يتعدّى الثوار عنفياً على أهل النظام، من قمة الهرم في الرئيس المستبدّ الى نَفَر الشرطة المدافعين عنه في الشارع. وهذا دأب ثوراتنا في المنطقة على عمومها، في مصر وفي تونس وفي البحرين وفي اليمن وفي السعودية. ثورتنا بالفعل لاعنفية، ولو تطغى الثورة السورية على بالنا اليوم.

حتى الثورة السوريّة كانت سلميّة بالمطلق حتى أوائل الصيف الماضي، وهدفها، شأنها شأن كل ثورة، انتقال الدولة والمجتمع من حال الاستبداد إلى حال الحرية المصونة بالقانون الذي يتساوى فيه المواطنون.

السؤال المطروح اذاً ليس في التفصيل أو في الاستثناءين الليبي أو السوري، ولكلِّ حالة خواصها التي لا أتطرّق لها الآن، مركّزاً على السؤال الفلسفي الأساسي، عن امكان اللاعنف المطلق عنواناً للثورة.

لدينا ثلاثة مرتكزات أنطلق منها على ضوء ما سبق:

1- الثورة دائماً حال عابرة من مجتمع الاستبداد الى مجتمع الحرية، ومجتمع الحرية عبارة عمّا تعني الحرية من عدم التعرّض للعمل السياسي السلمي بالعنف.

هدف الثورة إذاً حال من الحريّة نعبّر عنها بشرعية الحكومة، أو الديموقراطية، أو حكم القانون، أو ثبات مسؤولية الحكام، أو الحكم الصالح أو الرشيد، الخ.

2- الثورة في منطقتنا اختارت بشكل واعٍ ومتّصل عدم اللجوء الى العنف للعبور الى الحرية. هذه ظاهرة تفوق سابقتها في اوروبا الشرقية، حيث ضاعت روح اللاعنف في رفض الأنظمة القائمة اللجوء الى العنف ضدّ المتظاهرين، وفي مخيّلة سياسية سيطر عليها الصراع الرأسمالي- الاشتراكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

3- أما المرتكز الثالث المضاف الى نشدان الحرية في دولة القانون والى الوعي اللاعنفي الطاغي في ثورتنا على امتداد الشرق الأوسط، فهو نجاحها على الأقل في دولتين مهمتين هما تونس ومصر، وفي اليمن نسبياً، وفي امتدادها سورياً على نحو أربعة أشهر، وفي استمرارها لاعنفية في البحرين، وفي الخليج بأسره، وفي السودان، وفي الأردن، وفي اسرائيل- فلسطين. الثورة اللاعنفية هي واقع – قد يتردّى أو يتغيّر أو يزول – لكنه واقع عظيم يحتّم سؤالاً أعمق من تفاصيل الأحداث هو سؤال في الفلسفة السياسية: هل من الممكن للثورة أن تكون لاعنفيّة في ماهيّتها على الاطلاق؟

إذا صحّ السؤال فجوابي عنه مركّب على تضافر نصّين أساسيين في تاريخ الفكر، أولهما للفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط، ولا حاجة للتعريف به، وثانيهما لقانوني معاصر رحل شاباً عام 1986 عن عمر ناهز الأربعين سنة، روبرت كوفر.

نصّ كانط معروف، هو رسالة وجيزة بعنوان “نحو (أو من أجل) السلام الدائم”، نشره عام 1795 إبان الثورة الفرنسية. أمّا نصّ كوفر فهو مقالة أيضاً قصيرة بعنوان “العنف والكلمة” صدرت في مجلة كلية الحقوق بجامعة يال عام 1986.

جواباً عن سؤالنا عن امكان اللاعنف المطلق في الثورة، أختصر نظرة كانط التي استوحى بعضها من تراث مفكّر طوباوي اسمه الأب دو سان بيار، صاحب كتاب “مشروع السلام الدائم” الذي صدر عام 1713 وعلّق عليه روسو بعد زهاء خمسين عاماً.

يرى كانط امكان السلام الدائم في العالم مشروطاً بحال داخلية للدول هي حال جمهورية (بمعنى الديموقراطية). لا مجال في رؤيته للسلام الدائم إحقاقه بين دول ليست جمهورية في تركيبتها الداخلية، لأن الدولة التي لا يحكمها الشعب تبقى الحرب فيها أداة أساسية لحاكمها المستبد. هذه النظرية تفسّر جزئياً نشوء مجموعات الدول كرابطة الأمم ومنظّمة الأمم المتحدة إبان الحربين الكونيتين. هذه النظرية يُعبَر عنها أيضاً بـ”السّلم الديموقراطي”، مقابل النظريات الواقعية التي لا تعير أهمية لعنصر الديموقراطية الداخلي في العلاقات بين الدول، بما فيها الحرب.

رسالة روبرت كوفر لا تتناول العلاقات الدولية، ولا تبحث عن سلم دائم بين الدول، ولا اشارة حتى الى الحرب فيها. الرسالة تتعرض فقط لعلاقة الكلمة بالعنف في المجتمع الديموقراطي، وتركّز على حقيقة ترتبط في دولة القانون بأكثر المعبّرين عنها حياداً، وهو القاضي. “القاضي”، في عبارة كوفر الشهيرة في العالَم القانوني الأميركي: “القاضي يوزّع الألم والموت كلَّ يوم”.

لا نَغُرّ أنفسنا بعفّتنا السلمية، هذا ما ينبّهنا كوفر الى خطره، لأن العنف من كلام القاضي كل يوم، ومجرد النظر الى أي محاكمة جزائية كافٍ لما يرافقها من سلاسل مقيِّدة للموقوف وحتى تنفيذ عقوبة الإعدام في المحكوم بها. القاضي يوزّع الألم والأذى حتّى الموت، كلّ يوم، في مجتمعنا الديموقراطي، فلا نغرَّنَّ أنفسنا بسلميّته

، لأن العنف المشَرَّع به في الجمهورية هو الأساس.

طبعاً، يفرّق كوفر بين العنف المقنَّن في المجتمع الديموقراطي، في الجمهورية، والعنف الاعتباطي من طبائع الاستبداد، لكنّ الأساس في الجمهورية يبقى نفاذ الحكم والإرغام لمن يطبَّق عليه بالقوَّة إذا لزم الأمر.

هنا نقطة التضاد الأساسي الذي يهمّنا في فلسفة الثورة. بما أنّ هدف الثورة هو ازاحة الاستبداد لإحلال الجمهورية الديموقراطية، فإن الدولة التي تنشدها الثورة، وتبدأ بارسائها حكومة الثورة، متى تخلّصت من المستبدّ، مبنية على العنف بالضرورة، وبالشكل الذي أظهره روبرت كوفر في أكثر تجليّاته حضارة، وهو القضاء المستقل الذي يوزّع الألم والموت كلّ يوم.

بتلاقي كانط وكوفر في البحث فلسفياً، يغدو السؤال عن إمكان الثورة اللاعنفية كالآتي: اذا كانت الدولة تحت حكومة الثورة المنتصرة دولة تعتمد على العنف بداهةً، كما يقول كوفر، فكيف يمكن أن تصحّ نظرية كانط في إحلال السلام الدائم بين الدول – أي إحلال اللاعنف في العالم، طالما أن الدولة الديموقراطية، أي الجمهورية، هي نفسها توزّع العنف والموت كلّ يوم؟

جواب كانط عن المعضلة سهل، فهو لا يعتبر انعدام العنف في الجمهورية طبيعةً لها، بالعكس فإنه دافع في رسالة أخرى عن عقوبة الإعدام كضرورة للاقتصاص من القاتل احتراماً للقانون المقرّ ديموقراطياً. لذا فهناك في رسالته عن السلام الدائم في الفضاء الدولي تنويهٌ لمعاقبة من يكسر القاعدة السلمية بين رابطة الجمهوريات من طريق قضاء أو مرجع دولي يعيد الأمور الى نصابها بالعنف اذا لزم الأمر. بالفعل، فإن قاضي كوفر يتحول في هذا النظام قاضياً دولياً نرى معالمه في انتشار القضاء الجزائي الدولي، ولا سيما في المحكمة الجنائية الدولية في أواخر القرن الماضي.

إنما سؤالنا مختلف: هل يمكن الثورة أن تكون لاعنفية، حتى اذا كانت الدولة التي تصبو اليها تكرّس العنف في صورة القاضي الذي يوزّع الألم والموت في المجتمع، ويوزّع الألم والموت بحسب الضوابط القانونية العادلة والمتفق عليها في الجمهورية الديموقراطية؟

الجواب يمكن التعبير عنه بأنّ عنف دولة القانون اليوميّ المعبَّر عنه في القضاء الملزم يكرِّس في واقع الثورة التي نعيشها انعكاسَ التاريخ رأساً على عقب. صحيح أنّ الجمهورية مبنيّة على العنف المتمثل في أسمى تعابيره في القاضي، لكنّه صحيح أيضاً أنّ الثورة اللاعنفية، خلافاً للجمهورية، ممكنة على الاطلاق. الثورة – ووحدها الثورة – قادرة على التوسّل باللاعنف على الاطلاق، وشرعية الثورة اللاعنفية تأتي من وقفة الشعب الخام، في قيامه السلمي العارم على الحاكم أسابيعَ وأشهراً متواصلة لتغييره وإحلال الحرية في الجمهورية. لا محل للقاضي في الثورة، لأن القاضي خلال انهيار النظام على امتداد الثورة لا وجود له سوى كمواطن مثل سائر المواطنين ، فلا وجود للقاضي في الثورة بداهةً، وبذلك يمكنها أن تكون لاعنفية على الاطلاق خلافاً لحكومتها متى انتصرت. فعندما تنتصر الثورة، لا بدّ لها من قاضٍ والعنف المقنّن الملازم له في الجمهورية.

يبقى السؤال عما اذا كانت الثورة اللاعنفية تعلِّق حكم القضاء حتى انتصارها، أي أنّ الشعب الثائر لا يرتكز أيضاً على استشراف القاضي معاقباً جرائم الاستبداد متى نحّت الثورةُ الطاغية من الحكم بطريق لاعنفي.

هذا طرحٌ مهم لا جواب واضحاً لديّ فيه، لكنّه طرحٌ أساسي علينا أن نعالجه في ثورتنا، طالما أننا أثبتنا فلسفياً أنّ الثورة – ووحدها الثورة- قادرة على التوسّل باللاعنف المطلق. الموضوع الفلسفي الملازم لهذا الجانب الغامض من الثورة اللاعنفية المطلقة التي تعلّق حكم القانون حتّى يكون متيسِّراً لها عند تسلم زمام الحكم، هذا موضوع لا بُدّ من التساؤل فلسفياً عمّا إذا كان عنصراً أساسياً في الثورة اللاعنفية المطلقة. فهل ما نسمعه كل يوم من شعبنا الثائر أنّه “يريد محاكمة الرئيس” أيضاً عنصرٌ تكويني في فلسفة الثورة السلمية؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى