السؤال عن حركة «الإخوان المسلمين»
ماجد كيالي
ثمة التباس في شأن مكانة جماعة «الإخوان المسلمين» في المجتمع السوري، خصوصاً دورها في إطار الثورة السورية. فثمة من يعتقد بأنها الأقوى، والأوسع انتشاراً، بالقياس إلى غيرها، في واقع حرم فيه السوريون من السياسة والحياة الحزبية، ولكن في المقابل ثمة من يعتقد بأن هذا الكلام ينطوي على مبالغة، لا سيّما أن الجماعة كانت محظورة في سورية منذ عقود.
طبعاً، يصعب الجزم بصحّة أي من وجهتي النظر هاتين، فثمة ما يرجّح أن هذه الحركة ليست في تلك المكانة الكبيرة في مجتمع السوريين، وليس لها الثقل اللازم للتحكّم بمسارات الثورة، وهذا تبيِّنه، أولاً، محدودية انتشارها التنظيمي، في الأرياف والمدن، حتى بعد أكثر من عامين على انطلاق الثورة وسيطرتها على مناطق واسعة، إذ لم تظهر في هذه المناطق تعبيرات شعبية وازنة تعبّر عنها. وثانياً، لأن الحركة لا تبدو مواكبة لتطوّرات الثورة، على النحو المناسب، لا على الصعيدين السياسي والعسكري، وهو ما تُمكِن ملاحظته من كيفية إدارة وضع «المجلس الوطني»، ثم الإئتلاف الوطني، ومن بروز قوى إسلامية منافسة، ضمنها «جبهة النصرة»، و «جبهة تحرير سورية الإسلامية»، و «الجبهة الإسلامية لتحرير سورية»، وغيرها. وثالثاً، لأن ثمة تيارات إسلامية غير محسوبة تقف ازاءها، تتجمّع حول بعض المشايخ المشهورين في دمشق (مثلاً كفتارو والبوطي رحمهما الله)، وحول تنظيم الأخوات «القبيسيات»، مثلاً، كما ثمة التيار الصوفي، وهي تيارات حاول النظام تمكينها بمنحها نوعاً من الشرعية وحرية الحركة.
ومن تَفَحُّص وقائع الثورة في مرحلتها السلمية، على امتداد أشهر 2011، يمكن ملاحظة أن «الإخوان المسلمين» لم يبدوا نشاطاً متميّزاً في الداخل، رغم تفجّر الوضع. أما بعد التحول نحو العسكرة والثورة المسلحة، والذي وسم العام الثاني للثورة، فتبيّن أن هذه الحركة، رغم الإمكانات التي تمتلكها، لم تستطع أن تشكّل تياراً قوياً، في إطار «الجيش الحر» أو خارجه، وعلى العكس بدا أن الجماعات الإسلامية، المحسوبة على التيارات السلفية، أكثر انتشاراً ونفوذاً وقدرةً من «الإخوان».
وتبيّن، أيضاً، أن حركة «الإخوان المسلمين»، وهي الموسومة بالاعتدال والوسطية، لم تقل، ولم تفعل شيئاً يُذكر إزاء بعض التصرّفات السلبية والمضرّة بالثورة وبمجتمعها، من تلك التي انتهجها بعض الجماعات المسلحة المحسوبة على التيارات الجهادية، والتي أدّت إلى فرض صورة متطرّفة وقاسية للإسلام، لاستخدامها القوة لفرض نفوذها. وهذا الأمر وصل حدّ التنكيل ببعض النشطاء من التيارات المدنية، ومحاولة اقامة هيئات «شرعية»، والسيطرة الأحادية على بعض المناطق، ومصادرة موارد عامة.
اللافت أن هذه الحركة كانت أصدرت «وثيقة العهد» في شأن رؤيتها لمستقبل سورية (آذار- مارس- 2012)، والتي أكّدت فيها سعيها إلى «دولة مدنيّة حديثة، تقوم على دستور مدنيّ… يضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع… (وأنها) تحترمُ المؤسسات، وفصل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية… دولة ديموقراطية تداولية تعددية… يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه… دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم… والرجالُ والنساء… في الكرامة، وحرية التفكير والتعبير، والاعتقاد والعبادة، والإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية… دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا لثأر أو انتقام… حتى أولئك الذين تلوّثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، من حقهم الحصولَ على محاكمات عادلة، أمامَ القضاء النزيه الحرّ المستقل… دولة تعاون وألفة ومحبة، بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظلّ مصالحة وطنية شاملة».
في حينه بدت هذه الوثيقة ضرورية جداً وجريئة، وعلى غاية الأهمية، في شأن توضيحها صورة سورية المستقبل، وطمأنتها مكوّنات المجتمع، بصرف النظر عن موقفها من الثورة، وضمن ذلك تقديمها لتيار إسلامي متصالح مع العصر، ومع قيم الديموقراطية والليبرالية، يحترم مبادئ الحرية والمساواة وحقوق المرأة وسيادة الشعب.
لكن حركة «الإخوان»، مع الزمن، بدت كأنها نسيت هذه «الوثيقة»، فهي لم تترجمها إلى ثقافة عامة لدى منتسبيها والمتعاطفين معها، والأهم أنها لم تقم بما ينبغي للحؤول دون صدور خطابات عن الثورة تناقض الروحية العامة لها، مع تصدّر خطاب إسلامي متطرّف يعتبر الديموقراطية خروجاً على الدين، ويتوعّد بدولة دينية، ناهيك عن اعتباره أن الصراع على سورية جزء من صراع أشمل لإقامة «الخلافة» الإسلامية.
طبعاً، ليس المطلوب منع أي جماعة من التعبير عن رأيها وفكرها، وإنما لفت الانتباه إلى أن حركة «الإخوان المسلمين»، كمعبّر عن تيار إسلامي رئيس، لم تصدر ما يفنّد، وما يرشّد، تلك الخطابات المتطرّفة التي تضرّ بصدقية الثورة، وتشكّك بمقاصدها، وتثير المخاوف في شأن المستقبل بين السوريين أنفسهم، لا سيما أنها خطابات تصادر المستقبل بالقوة، وتتناقض مع مضامين «وثيقة العهد» المذكورة.
لذلك، ثمة شرعية للتساؤل عن الموقف الحقيقي للحركة، وما إذا كانت اكتشفت محدودية قدراتها، مع صعود قوى اسلامية مسلّحة، باتت تنافسها في ساحتها، ما جعلها تنكفئ على ذاتها، «درءاً للضرر» وحفاظاً على قواها. كما ثمة شرعية للتساؤل عما إذا كانت الحركة تراجعت عن التعهّدات التي أخذتها على نفسها، وهل كانت «وثيقة العهد» تلك مجرّد ورقة مثل غيرها، للإستهلاك والتورية والتلاعب السياسي.
بديهي أن الوضعية الأولى، تثير التساؤل حول الحجم الحقيقي لـ «الإخوان» في سورية، بعد عقود من المنع، والقمع، ما يعني أن الحركة تواجه تحدّياً حقيقيّاً في ساحتها. أما الوضعية الثانية فتثير الشكوك في شأن مدى نضجها في رؤيتها للعالم، وتعاملها مع الواقع، لا سيما مع الشبهات المحيطة بطريقة عملها الاستئثارية في الإطارات السياسية والعسكرية للثورة، ما يضرّ بصدقيتها وصورتها… بخــاصة أن ثمة ما يعزّز ذلك بسلوك شقيقها، «الحرية والعدالة» في مصر، المتّهم بالتنصّل من الوعود التي قطعها لشركائه في الثورة، باستئثاره بالحكم.
هكذا، ثمة خيارات بين أن تكرّر حركة «الإخوان» في سورية سلوك الحركة الشقيقة في مصر، أو أن تسير على هدي نموذج الحركة الإسلامية في تركيا لمصلحة إسلام بمفهوم ديموقراطي وليبرالي، مثلاً، أو أن تشقّ طريقها الخاص، على هدي «وثيقة العهد»، فتنقذ نفسها، وتساهم في إنقاذ سورية التي يزداد وضعها صعوبة وتعقيداً.
الحياة