الساروت.. حارس الكرامة/ راشد عيسى
منذ بداية الثورة السورية، واشتعالها في مدينة حمص خصوصاً، اكتشف السوريون أن حارس “الكرامة”، حارس فريق “الكرامة” الحمصي لكرة القدم، لم يكن مجرد حارس مرمى، بل هو بالفعل حارس الكرامة، ولشدّة ما افتتن السوريون بهذا التطابق الفريد بين الواقع والمجاز. ذلك الحارس كان عبد الباسط الساروت (تسعة عشر عاماً آنذاك)، وهو سرعان ما انضم إلى التظاهرات العارمة في مدينة حمص، بل أصبح هو منشدها ومغنيها.
الساروت اليوم هو موضوع الفيلم السينمائي التسجيلي “العودة إلى حمص” (88 دقيقة)، الذي استغرق المخرج السوري طلال ديركي عامين لإنجازه، والذي سيظهر إلى النور قريباً في “مهرجان أمستردام للفيلم التسجيلي” كأول فيلم عربي يعرض في الافتتاح، ومشاركاً في المسابقة الرسمية للفيلم الطويل.
لكن وراء الساروت هناك حكاية الثورة والحدث السوري، على ما يقول المخرج ديركي لـ”المدن”، حيث “الفيلم مبني على نقل الحدث السوري من خلال متابعة تفاصيل يومية ومفارقات صعبة واجهت شابين فاعلين في الثورة، الأول هو الساروت من حي البياضة، حارس مرمى نادي الكرامة، الذي أصبح منشد تظاهرات حمص، إلى أن التحق برفاقه في الدفاع عن المدينة، وأصبح قائد إحدى المجموعات المنضوية تحت جناح الجيش الحر، والشاب الثاني هو أسامة الحمصي، مصور وإعلامي من حي الخالدية”.
المخرج كان يتحرك في مدن سورية عديدة مع بدايات الثورة مشاركاً في التصوير وفي العمل الصحافي كما يقول. وفي حمص تعرّف إلى الساروت “كان ذلك أثناء عملي مع أسامة الحمصي. تعرفت إليه، رأيت العزم والتصميم، وأعجبت بجرأته وأغنياته، التي كانت بدأت تُردد في أنحاء سوريا. أيقنت من متابعتي له أن هناك حكايات قادمة لا محالة، وسرعان ما بدأ النظام بحملة تأديبية له ولمحيطه، ودخل باسط في طريق اللاعودة في المطالبة بإسقاط النظام”.
فيلم كهذا، لا بد أنه كان عملاً محفوفاً بالمخاطر، حيث “الطريق من دمشق (حيث كان يقيم المخرج) إلى حمص مليء بالحواجز. الخطورة كانت أكبر حينما تدخل المدينة، حيث الحواجز والقناصة المنتشرون بكثافة على أسطح المباني وداخل بيوت محددة، يطلقون النار مباشرة لدى رؤية أية كاميرا. هذا إلى جانب القصف الممنهج للمدينة، والمعارك على جبهات كثيرة، والحصار القاتل”.
هكذا اضطر المخرج إلى الاعتماد على مصور متواجد دائماً بجوار الساروت والحمصي “فيما كنت في الأوقات الأخرى، أنا ومنتج الفيلم عروة نيربية، نصور المشاهد المؤسسة للبنية الدرامية ولصلب الفيلم، وفي غيابنا، وتحديداً حين بقينا في دمشق وخضعت حمص لحصار صارم، كان المصور ينسق معنا بشكل يومي من خلال النت الفضائي”.
المخرج لم يكن بعيداً عن الخطر، فهو كما يقول “جزء من الثورة، وقد تجاوزنا منذ اللحظة الأولى حاجز الخوف. كان الخوف ألا يكتمل المشروع، وكانت المجازفة كبيرة بوجود السوريين الشجعان على خط الجبهة بمواجهات الدبابات والقذائف والطيران”.
لحظات الخوف ومواجهة الموت تبدو جزءاً من فيلم من هذا النوع، من دونها لا شك سيصبح فيلماً آخر “لا تستطيع أن تعود إلى حياتك السابقة بعد هكذا فيلم. في المستقبل سيأتي شخص وينجز فيلماً روائياً عن تجربة الساروت، وقصة حياته المثيرة للجدل، لكن هذا الكاتب أو المخرج، سيغادر منزله صباحاً بثيابه الأنيقة، ويوصل ابنه للمدرسة ويتابع نحو موقع التصوير، القهوة في انتظاره والمساعدون والممثلون كذلك. زوجته ستكون مطمئنة تمارس حياتها بأريحية، لا خطر على مصيره من الموت أو الاعتقال والتصفية، لن يعرف من (وما) هو الساروت، ومن هم أولئك الذين مات معظمهم. لن يسأله الساروت الحقيقي: ماذا نفعل الآن؟.. لن يكون جزءاً من التاريخ. هنا يكون الفيلم التسجيلي منتصراً على باقي الفنون”.
ولدى سؤال المخرج ديركي إن كان الساروت شاهد نسخة من الفيلم، قال: “لقد شاهده في ظروف جداً صعبة، فهو داخل الحصار، وحي الخالدية سقط في يد النظام. استشهد أخوه وخاله أيضاً قبل أسابيع، ووضعه الصحي سيء جداً. لكنه على دراية كاملة بمشاهد الفيلم، ومقتنع تماماً بضرورته، هو الذي حضر أمام الكاميرات حين كان الجميع خائفاً، وغاب حين أصبحت المسألة متاحة للكثيرين”. وأضاف ديركي: “تربطنا صداقة قوية، وتفهّم كل منا لدور الآخر ولأهميته. هو يعلم تماماً ما أنا مقدم عليه، يتناسى حضور الكاميرا في كثير من الأوقات، اعتاد على حضورنا الدائم، لا يختلف البتة في الواقع عنه أمام الكاميرا”.
وإذا كانت سوريا بعد اندلاع الثورة شهدت انتعاشاً هائلاً في إنتاج الفيلم التسجيلي، فإن مخرج “العودة إلى حمص” علّق على ما أسماه “الثورة البصرية” بالقول: “المشكلة تكمن في غياب الصبر والوعي بالتعامل مع المادة المتابعة. فن كتابة الحكاية، وفن خلق العنصر الإنساني والعاطفي وخلق خطوط درامية أو البحث عنها في مناطق الصراع، بقي غائباً أمام الحضور الإخباري العام للثورة. شخوص كثيرة عاشت وماتت قربنا ولم نعرْها انتباهنا، كذلك تجد أن الجانب الإعلامي في الثورة نحو تراجع بسبب هيمنة المال السياسي على الثوار والكتائب. أصبح الإعلامي محكوم بالعمل فقط لمصلحة الجهة التي ينتسب لها وتؤمن له دخله”. لكن ديركي استدرك بالقول: “هناك الكثير من الشباب الذين أثق فيهم يعملون أفلامهم بصمت وصبر كبير، ويتحدون الموت، ومنهم أيضاً من هو معتقل لدى النظام أو لدى جهات مثل داعش وغيرها، مقيمة على التراب السوري”.
المدن